الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }

{ زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا } أي أوجدت حسنة وجعلت محبوبة في قلوبهم فتهافتوا عليها تهافت الفراش على النار وأعرضوا عما سواها ولذا أعرض أهل الكتاب عن الآيات وبدلوها؛ وفاعل التزيين بهذا المعنى حقيقة هو الله تعالى وإن فسر بالتحسين بالقول ونحوه من الوسوسة كما في قوله تعالى:لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ } [الحجر: 39] كان فاعل ذلك هو الشيطان والآية محتملة لمعنيين، والتزيين حقيقة فيهما على ما يقتضيه ظاهر كلام الراغب.

{ وَيَسْخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } الموصول للعهد، والمراد به فقراء المؤمنين كصهيب وبلال وعمار أي يستهزؤون بهم على رفضهم الدنيا وإقبالهم على العقبـى، و { مِنَ } للتعدية وتفيد معنى الابتداء كأنهم جعلوا لفقرهم ورثاثة حالهم منشأ للسخرية وقد يعدى السخر بالباء إلا أنه لغة رديئة، والعطف على (زين) وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار، وجوز أن تكون الواو للحال و(يسخرون) خبر لمحذوف أي وهم يسخرون، والآية نزلت في أبـي جهل وأضرابه من رؤساء قريش بسطت لهم الدنيا وكانوا يسخرون من فقراء المؤمنين ويقولون لو كان محمد صلى الله عليه وسلم نبياً لاتبعه أشرافنا، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وقيل: نزلت في ابن أبـيّ بن سلول، وقيل: في رؤساء اليهود، ومن بني قريظة والنضير وقينقاع سخروا من فقراء المهاجرين وعن عطاء لا مانع من نزولها في جميعهم.

{ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } هم الذين آمنوا بعينهم وآثر التعبير به مدحاً لهم بالتقوى وإشعاراً بعلة الحكم، ويجوز أن يراد العموم ويدخل هؤلاء فيهم دخولاً أولياً. { فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } مكاناً لأنهم في عليين وأولئك في أسفل السافلين، أو مكانة لأنهم في أوج الكرامة وهم في حضيض الذل والمهانة، أو لأنهم يتطاولون عليهم في الآخرة فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا، والجملة معطوفة على ما قبلها، وإيثار الاسمية للدلالة على دوام مضمونها، وفي ذلك من تسلية المؤمنين ما لا يخفى. { وَٱللَّهُ يَرْزُقُ } في الآخرة { مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي بلا نهاية لما يعطيه، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: هذا الرزق في الدنيا، وفيه إشارة إلى تملك المؤمنين المستهزىء بهم أموال بني قريظة والنضير، ويجوز أن يراد في الدارين فيكون تذييلاً لكلا الحكمين.