الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً }

{ ذٰلِكَ } المتقدم في التكاليف المفصلة { مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ } أي بعض منه أو منه جنسه / { مِنَ ٱلْحِكْمَةِ } التي هي علم الشرائع أو معرفة الحق سبحانه لذاته والخير للعمل به أو الأحكام المحكمة التي لا يتطرق إليها النسخ والفساد. وفي «الكشاف» عن ابن عباس هذه الثماني عشرة آية يعني منلاَّ تَجْعَل } [الإسراء: 22] فيما مر إلى { مَلُومًا مَّدْحُورًا } بعد كانت في ألواح موسى عليه السلام وهي عشر آيات في التوراة. وفي «الدر المنثور» أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن التوراة كلها في خمس عشرة آية من بني إسرائيل ثم تلا { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءاخَرَ } وهذا أعظم مدحاً للقرآن الكريم مما في «الكشاف». و { مِنْ } إما متعلقة بأوحى على أنها تبعيضية أو ابتدائية وإما بمحذوف وقع حالاً من الموصول أو عائده المحذوف أي من الذي أوحاه إليك ربك كائناً من الحكمة، وجوز أن يكون الجار والمجرور بدلاً من (ما).

{ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءاخَرَ } الخطاب نظير الخطاب السابق كرر للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه وأنه رأس كل حكمة وملاكها، ورتب عليه أولاً ما هو عائدة الشرك في الدنيا حيث قالفَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً } [الإسراء: 22] ورتب عليه هٰهنا نتيجته في العقبـى فقيل { فَتُلْقَىٰ فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا } من جهة نفسك ومن جهة غيرك { مَّدْحُورًا } مبعداً من رحمة الله تعالى. وفي «التفسير الكبير» الفرق بين المذموم والملوم أن المذموم هو الذي يذكر أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر والملوم هو الذي يقال له لم فعلت مثل هذا الفعل وما الذي حملك عليه وما استفدت منه إلا إلحاق الضرر بنفسك. ومن هذا يعلم أن الذم يكون أولاً واللوم آخراً، والفرق بين المخذول والمدحور أن المخذول عبارة عن الضعيف يقال تخاذلت أعضاؤه أي ضعفت، والمراد به من تركت إعانته وفوض إلى نفسه والمدحور المطرود والمراد به المهان والمستخف به انتهى. وفي إيراد الإلقاء مبنياً للمفعول جرى على سنن الكبرياء وازدراء بالمشرك وجعل له كخشبة يأخذها من كان فيلقيها في التنور.

هذا وقد وحد الخطاب في بعض هذه الأوامر والنواهي وجمع في بعض آخر منها ولم يظهر لي سر اختيار كل من التوحيد والجمع فيما اختير فيه على وجه يسلم من القيل والقال ويهش له كُمَّل الرجال، وقد ذكرت ذلك لبعض أحبابـي من أجلة المحققين ورؤساء المدرسين وطلبت منه أن يحرر ما يظهر له حيث إني محقق كماله وفضله فكتب ما نصه أقول معترفاً بالقصور محترزاً عن الغرور معتذراً بالقول المأثور المأمور معذور يخطر على خاطر الفقير لتغيير أسلوب الخطاب وجوه تسعة لا تدخل في الحساب: الأول الإشعار بانقسام هذه التكاليف إلى أقسام ثلاثة قسم أهم الكل خوطب به الأمة مرتين مرة تصريحاً بخطاب أنفسهم ومرة تعريضاً بخطاب رسولهم صلى الله عليه وسلم وهذا الأهم هو التوحيد، وقسم مهم جداً لكن دون الأول خوطبوا به واحدة تصريحاً وهو أمور سبعة، الأول مطلق الإحسان بالوالدين فإن انتفاءه بأن لا يحسن إليهما أصلاً من أشد مراتب العقوق، والثاني ترك قتل الأولاد، والثالث الزنا، والرابع ترك قتل النفس المحرمة إلا بالحق، والخامس ترك التصرف في مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، والسادس الإيفاء بالعهد، والسابع الوزن بالقسطاس المستقيم.

السابقالتالي
2 3 4 5 6