الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَلْقَوْاْ إِلَىٰ ٱللَّهِ يَوْمَئِذٍ ٱلسَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }

{ وَأَلْقَوْاْ } أي الذين أشركوا، وقيل: هم وشركاؤهم جميعاً، والأكثرون على الأول { إِلَىٰ ٱللَّهِ يَوْمَئِذٍ ٱلسَّلَمَ } الاستسلام والانقياد لحكمه تعالى العزيز الغالب بعد الإباء والاستكبار في الدنيا فلم يكن لهم إذ ذاك حيلة ولا دفع. وروى يعقوب عن أبـي عمرو أنه قرأ { السلم } بإسكان اللام، وقرأ مجاهد (السلم) بضم السين واللام { وَضَلَّ عَنْهُم } ضاع وبطل { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } من أن لله سبحانه شركاء وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين سمعوا ما سمعوا.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات:ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ } [النحل: 54] بنسبة ذلك إلى غيره سبحانه ورؤيته منه { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتَيْنَـٰهُمْ } من النعمة بالغفلة عن منعهمافَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 55] وبال ذلك أو فسوف تعلمون بظهور التوحيد أن لا تأثير لغيره تعالى في شيء { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ } فيعتقدون فيه من الجهالات ما يعتقدون وهو السوينَصِيباً مّمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ } [النحل: 56] فيقولون هو أعطاني كذا ولو لم يعطني لكان كذاوَإِنَّ لَكُمْ فِى ٱلأَنْعَـٰمِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ } [النحل: 66] الإشارة فيه على ما في " أسرار القرآن " إلى ما تشربه الأرواح مما يحصل في العقول الصافية بين النفس والقلب من زلال بحر المشاهدة وهناك منازل اعتبار المعتبرين، والإشارة في قوله تعالى:وَمِن ثَمَرٰتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَـٰبِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } [النحل: 67] على ما فيه أيضاً إلى ما تتخذه الأرواح والأسرار من ثمرات نخيل القلوب وأعناب العقول من خمر المحبة والأنس الآخذة بها إلى حضيرة القدس:
ولو نضحوا منها ثرى قبر ميت   لعادت إليه الروح وانتعش الجسم
{ وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ } قيل أي نحل الأرواح { أَنِ ٱتَّخِذِى مِنَ ٱلْجِبَالِ } أي جبال أنوار الذات { بُيُوتًا } مقار لتسكنين فيها { وَمِنَ ٱلشَّجَرِ } أي ومن أشجار أنوار الصفاتوَمِمَّا يَعْرِشُونَ } [النحل: 68] أنوار عروش الأفعال { ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ ٱلثَّمَرٰتِ } أي من ثمرات تلك الأشجار الصفاتية ونور بهاء الأنوار الذاتية وأزهار الأنوار الأفعالية { فَٱسْلُكِى سُبُلَ رَبّكِ } وهي صحارى قدسه تعالى وبراري جلاله جل شأنه { ذُلُلاً } منقادة لما أمرت به { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ } وهو شراب معرفته تعالى بقدم جلاله وعز بقائه وتقدس ذاته سبحانه { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } باختلاف الثمراتفِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ } [النحل: 69] لكل مريض المحبة وسقيم الألفة ولديغ الشوق، وقيل: الإشارة بالنحل إلى الذين هم في مبادىء السلوك من أرباب الاستعداد، ومن هنا قال الشيخ الأكبر قدس سره في مولانا ابن الفارض قدس سره حين سئل عنه: نحلة تدندن حول الحمى أمرهم الله تعالى أولاً أن يتخذوا مقار من العقائد الدينية التي هي كالجبال في الرسوخ والثبات ومن العبادات الشرعية التي هي كالشجر في التشعب ومن المعاملات المرضية التي هي كالعروش في الارتفاع ثم يسلكوا سبله سبحانه وطرقه الموصلة إليه جل شأنه من تهذيب الباطن والمراقبة والفكر ونحو ذلك متذللين خاضعين غير معجبين، وفي ذلك إشارة إلى أن السلوك إنما يصح بعد تصحيح العقائد ومعرفة الأحكام الشرعية ليكون السالك على بصيرة في أمره وإلا فهو كمن ركب متن عمياء وخبط خبط عشواء، ومتى سلك على ذلك الوجه حصل له الفوز بالمطلوب وتفجرت ينابيع الحكمة من قلبه وصار ما يقذف به قلبه كالعسل شفاء من علل الشهوات وأمراض النفس لا سيما مرض التثبط والتكاسل عن العبادة وهو المرض البلغمي.

السابقالتالي
2 3 4