الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُمْ بِٱلْبَيِّنَٰتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَٰلِكَ نَطْبَعُ عَلَىٰ قُلوبِ ٱلْمُعْتَدِينَ }

{ ثُمَّ بَعَثْنَا } أي أرسلنا { مِن بَعْدِهِ } أي من بعد نوح عليه الصلاة والسلام { رُسُلاً } أي كراماً ذوي عدد كثير فالتنكير للتفخيم والتكثير { إِلَىٰ قَوْمِهِمْ } قيل أي إلى أقوامهم على معنى أرسلنا كل رسول [إلى قومه] خاصة مثل هود إلى عاد وصالح إلى ثمود وغير ذلك ممن قص منهم ومن لم يقص لا على معنى أرسلنا كل رسول منهم إلى أقوام الكل أو إلى قوم أي قوم كانوا، وفيه إشارة إلى أن عموم الرسالة إلى البشر لم يثبت لأحد من أولئك الرسل عليهم الصلاة والسلام، وظاهر كلامهم الإجماع على أن ذلك مخصوص بنبينا صلى الله عليه وسلم ولم يثبت لأحد ممن أرسل بعد نوح، واختلف فيه عليه السلام هل بعث إلى أهل الأرض كافة أو إلى أهل / صقع منها؟ وعليه يبنى النظر في الغرق هل عم جميع أهل الأرض أو كان لبعضهم وهم أهل دعوته المكذبيين به كما هو ظاهر كثير من الآيات والأحاديث، قال ابن عطية: الراجح عند المحققين هو الثاني، وكثير من أهل الأرض كأهل الصين وغيرهم ينكرون عموم الغرق، والأول لا ينافي القول باختصاص عموم الرسالة على العموم المشهور بين الخصوص والعموم بنبينا صلى الله عليه وسلم لأنها لمن بعده إلى يوم القيامة.

وزعم بعضهم أن الغرق كان عاماً مع خصوص البعثة ولا مانع من أن يهلك الله تعالى من لا جناية له مع من له جناية ولا اعتراض عليه سبحانه فيما ذكر إذ هو تصرف في خالص ملكه ولا يسئل عما يفعل. وفي قوله سبحانه:وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } [الأنفال: 25] نوع إشارة إلى ذلك. نعم قد ثبت لنون عليه السلام عموم الرسالة انتهاء حيث لم يبق على وجه الأرض بعد الطوفان سوى من كان معهم وهم جميع أهل الأرض إذ ذاك فالفرق بين رسالته عليه السلام ورسالة نبينا صلى الله عليه وسلم ظاهر فإن رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام عامة ابتداء وانتهاء ورسالته عليه السلام عامة انتهاء لا ابتداء ولا يخلو عن نظر، والأولى أن يعتبر في اختصاص عموم رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام كونها لمن بعده إلى يوم القيامة فإن عدم ثبوت ذلك لأحد من الرسل عليهم السلام قبل نوح وبعده مما لا يتنازع فيه، وهذا كله إذا لم يلاحظ في العموم الجن وكذا الملائكة إذا لوحظ كما يفيده قوله سبحانه:لِيَكُونَ لِلْعَـٰلَمِينَ نَذِيراً } [الفرقان: 1] فأمر الاختصاص أظهر وأظهر.

{ فَجَآءوهُم } أي فأتى كل رسول قومه المخصوصين به { بِٱلْبَيِّنَـٰتِ } أي بالمعجزات الواضحة الدالة على صدق ما يقولون، والباء إما متعلقة بما عندها على أنها للتعدية أو بمحذوف وقع حالا من الضمير المرفوع أي متلبسين بالبينات لكن لا بأن يأتي كل رسول ببينة فقط بل بأن يأتي ببينة أو ببينات كثيرة خاصة به معينة له حسب اقتضاء الحكمة، وإلى نفي إرادة الإتيان ببينة وإرادة الإتيان ببينات كثيرة ذهب شيخ الإسلام، ثم قال: فإن مراعاة انقسام الآحاد على الآحاد إنما هي في ضميري { جَآءُوهُمْ } كما أشير إليه، ولعل صنيعنا أحسن من صنيعه، ويفهم من كلام بعض المحققين أن انفهام إرسال كل رسول إلى قومه من إشافة القوم إلى ضمير { رُسُلاً } وليس ذلك من مقابلة الجمع بالجمع المقتضي لانقسام الآحاد على الآحاد، ولا شك أن انفهام مجيء كل رسول قومه المخصوصين به تابع لذلك.

السابقالتالي
2 3 4