الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } * { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمينَ } * { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ ٱلْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }

كان ما تقدم نقضا لدعواهم الإِيمان بذكر فظائع أعمالهم المنافية له فيما سلف من أمرهم، وفي هذه الآيات رد لهذه الدعوى بمطالبتهم بأمر يأتونه في الحال يستلزمه رسوخ الإِيمان والاستقامة على هديه والاطمئنان إلى نتيجته وهي حسن العاقبة وسلامة المنقلب، وذلك أن الحياة الدنيا تزخر جوانبها بضروب المحن وصنوف الأكدار، فمن كان على ثقة من ربه بأنه سيبوئه مبوأ خير وسعادة بجواره في الدار الآخرة، لا يتردد - إذا خُير - في إيثار الانتقال عنها إلى تلك الدار المجردة من المحن الصافية من الأكدار، فما عليهم - وهم يدعون أنهم أولى الناس بربهم وبرضوانه ودار كلامته - إلا ان يفتحوا لقلوبهم هذا الباب من التمني ويترجموا ذلك بقول صريح يكون لهم حجة عند الناس إن كانوا صادقين في دعواهم.

ويبدو أنهم كانوا يدعون بأفواههم في أوساط المؤمنين أن لهم الدار الآخرة دون الناس، يفهم ذلك من هذا الإِلزام الذي أُلزموه في هذه الآيات، ويؤيده ما حكاه الله عنهم من قولهم:لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ } [البقرة: 111]، فإنها مقولة أهل الكتابين طويت في إجمال إسنادها إليهما، مع أن كل طائفة منها تدعى أنها وحدها على جادة الحق دون الأخرى، كما ينص عليه قوله:وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ لَيْسَتِ ٱلنَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ ٱلنَّصَارَىٰ لَيْسَتِ ٱلْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ } [البقرة: 113]، فكل واحد من الطائفتين إذن تدعي أنها وحدها هي الحقيقة بالسعادة في العقبى، كما أنها وحدها على صراط الهداية في الدنيا، ومؤدى ذلك أن كل من سواها ما له في الآخرة من نصيب.

والمراد بالدار الآخرة الجنة ونعيهما، فإن من حرمها لم يكن له في تلك الدار نصيب من راحة أو لذة أو نعمة، ولذلك وصف الله الذين يريدون حرث الدنيا بأنهم لا نصيب لهم في الآخرة، حيث قالمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [الشورى: 20]، وبين تعالى بأن حظ أولئك فيها العذاب والعياذ بالله، حيث قال:أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ ٱلنَّارُ } [هود: 16]، وقال:مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً } [الإِسراء: 18]، ومن صلي النار لم يكن له نصيب في الآخرة لحرمانه من كل خير، والمراد بالناس غير هؤلاء المدعين أو المؤمنون خاصة؛ وعلى الأول فأل للجنس الدال على الاستغراق، وعلى الثاني للعهد، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالناس محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو لا ينافي أنهم المؤمنون، كما أخرجه عنه البيهقي في دلائله لأن الإِيمان يومئذ كان محصورا فيه صلى الله عليه وسلم وفي أصحابه رضوان الله عليهم.

السابقالتالي
2 3 4 5 6