الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مُّوسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } * { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ }

سبق ذكر قصتي اتخاذهم العجل ورفع الطور فوقهم في هذه السورة وليست إعادتهما هنا تكرارا وإنما لما يترتب عليها مما لم يذكر فيما سبق من الفوائد، والواو عاطفة والمعطوف عليه قوله: { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ ٱللَّهِ } والقصد منه تعليم الإِنتقال في مجادلتهم إلى ما يزيد إبطال دعواهم الإِيمان بما أنزل اليهم خاصة، وذلك أنه بعد أن كذبهم في ذلك بقوله: { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ ٱللَّهِ مِن قَبْلُ } أتى بأسلوب الترقي إلى ذكر أحوالهم في مقابلتهم دعوة موسى الذي قد قابلوا دعوته بالعصيان قولا وفعلا أفاده العلامة بن عاشور.

وهو مبني على جواز عطف الخبر على الإِنشاء والعكس، وحجته ظاهرة لوفرة شواهده من القرآن؛ ومن كلام العرب وسيأتي بيان فائدة إعادة القصتين في تفصيل تفسير الآيتين إن شاء الله.

والبينات هي الآيات التسع التي ذكرها الله في قوله:وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } [الإِسراء: 101]، وقوله:فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ } [النمل: 12]، فإنها حجة على بني إسرائيل كما أنها حجة على فرعون وآله، ومن بين هذه الآيات العصى واليد، وقيل هي دلائل توحيد الله عز وجل، وقيل: هي التوراة، وصدر به القطب - رحمه الله - في الهيميان، وأيده بقوله: " فيكون هذا ترشيحا وتقوية في الرد عليهم في ادعائهم الإِيمان بالتوراة، كأنه قيل فلم تقتلون أنيباء الله من قبل إن كنتم مؤمنين بالتوراة. ولقد جاءكم موسى بها، ثم رد عليهم ردا آخر بقوله: { ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ } ".

ويرده أن الله عطف اتخاذهم العجل على مجيء موسى إليهم بالبينات ب " ثم " الدالة على المهلة مع أن هذا الاتخاذ سابق على المجيء بالتوراة وقد كان إبان ذهابه عليه السلام إلى ميقات ربه لتلقيها.

فإن قيل إن المهلة هنا رتبية وليست زمنية كما هو شأن ثم غالبا عندما تعطف الجمل، وهو الذي يقتضيه كلام القطب - رحمه الله - حيث قال: ثم رد عليهم ردا آخر بقوله: { ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ }.

فالجواب أن جعلها للمهلة الرتبية دون الزمنية مخالف لما تدل عليه البعدية المنصوص عليها بقوله: { مِن بَعْدِهِ } فإنها ظاهرة الدلالة على أن اتخاذهم العجل كان بعد مجيئه عليه السلام إليهم بالبينات، وهو أبلغ في التشهير بسوء صنيعهم وإقامة الحجة عليهم.

وقد تقدم شرح قصة اتخاذهم العجل، وقد ذكرت هنالك في معرض الامتنان عليهم بعفوه عنهم بعد ارتكابهم هذه الفعلة النكراء، وأعيدت هنا في معرض إقامة الحجة عليهم ودحض شبهتهم التي يتشبثون بها في ترك إيمانهم بخاتم النبيين وذلك أنهم لو كانوا مؤمنين حقا بما أنزل عليهم لما اتخذوا العجل إلها من دون الله، وقد دعاهم موسى عليه السلام إلى توحيد الله عقيدة وعبادة، وأجرى الله تعالى على يديه من الآيات ما يكفي لاستئصال شبهة كل ممار في توحيده، والآيات التسع الموسومة هنا بالبينات، كما أنها حجة على فرعون وآله هي حجة على بني اسرائيل لمعاينتهم لها، وقد كانت مقدمات لخلاصهم مما كانوا يعانونه تحت وطأة قهر المتكبرين، كفرانهم بالله باتخاذهم أندادا له بعد هذه المعاينة أوغل في الظلم وأبعد في الضلالة، وأشد تنافيا مع ما يدعونه من الإِيمان بما أنزل عليهم أي على الأنبياء الذين هم من بني جلدتهم، فإن أولئك النبيين جميعا ما كانوا إلا دعاة توحيد، فأي انحراف عن منهجه كفر برسالتهم وجحد لما أنزل عليهم.

السابقالتالي
2 3 4 5 6