الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ ٱللَّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ }

الكلام مستأنف لتسجيل مذمتهم مقرونة ببرهانها وذلك أنهم إنما استحقوا هذا الذم بإيثارهم الباطل على الحق واختيارهم الكفر على الإِيمان، لا لإِلتباس حاصل أو شك في حقيقة الحق، ولكن لإِيثار هوى النفوس على مصالحها الباقية، والبغي الذي لا يؤدي إلا إلى محاولة تشويه الحقيقة الناصعة وطمس الحق المبين.

و(بئس) فعل من الأفعال الجامدة كأختها نعم، فهما لا تتصرفان الى مضارع ولا أمر ولا مصدر ولا اسم فاعل، ولا اسم مفعول، ولا صفة مشبهة، وإنما يفرق بينهما المعنى، فهذه تدل على الذم، وتلك على المدح، وكما تشتركان في الجمود تشتركان كذلك في العديد من الأحكام، منها: رفعهما الفاعل، وافتقارهما الى مخصوص بالمدح أو الذم، إما منطوق به، وإما مفهوم من المقام، وفاعلهما لا يكون إلا معرفة سواء كان مظهرا نحو نعم الرجل أبو بكر وبئس الرجل أبو جهل فالرجل في المثالين فاعل، وأبو بكر مخصوص بالمدح، وأبو جهل مخصوص بالذم أم كان مضمرا تفسره نكرة تلي الفعل منصوبة على التمييز نحو بئس رجلا أبو لهب فإن الفاعل في المثال ضمير مستتر في بئس يفسره التمييز وهو رجلا.

ومع تعريفه فهو إما أن يكون معرفا بأل كما سبق في الأمثلة أو مضافا إلى ما عرف بها، كما في حديث: " بئس أخو العشيرة.... " ، واختلف فيما عُرف بغيرهما كالموصول، وبناء على جوازه فإن " ما " في الآية موصولة فاعلة لبئس، والجملة بعدها صلتها، وهو محكي عن سيبويه، كما نقل عن الكسائي والفراء، واليه ذهب الفارسي في أحد قوليه، والمشهور عن سيبويه أنها معرفة تامة بمعنى الشيء فاعل لبئس، والمخصوص بالذم محذوف، أي شيء اشتروا به أنفسهم وهو معزو إلى الكسائي، وقيل هي وما بعدها مسبوكة بمصدر في موضع رفع والتقدير بئس اشتراؤهم، ولابن عطية على ذلك اعتراض تعقبه أبو حيان ولم نجد داعيا إلى إيراد كلامهما، وقيل: هي موصوفة بجملة بعدها في محل نصب على التمييز من الضمير المستتر في بئس وهو فاعلها، وعليه فهي مؤولة بشيء " وأن يكفروا " هو المخصوص بالذم مؤولا بمصدر، والتقدير بئس هو شيئا اشتروا به أنفسهم كفرهم بما أنزل الله، وهذا هو أحد مذهبي الفارسي، واختاره الزمخشري، وثم مذاهب أخرى لا داعي إلى ذكرها.

(واشتروا) بمعنى باعوا عند الجمهور وذلك أنهم حرموا أنفسهم من سعادة الدار الآخرة بكفرهم بما أنزل الله على عبده ورسوله مع معرفتهم بحقه، وإدراكهم أن صفقتهم خاسرة، وأنهم ضالون في سعيهم، ومن حرم نعيم الآخرة فقد حرم نفسه لأنه عرضها لأخطر المهالك وأسوأ العواقب، فكان هذا التعبير أدق في الدلالة على هذا المعنى وأبلغ في تصويره وأجدى في التحذير من الأخذ بأسباب ذلك.

السابقالتالي
2 3 4