الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ }

جملة يخادعون مبدلة من جملة يقول آمنا بالله.. الخ، لأنهم ما قصدوا بهذا القول إلا الخداع، ويجوز أن تكون استئنافا بيانيا أو حالا من فاعل يقول.

ويخادعون من خادع الدال على الاشتراك في الخدع، وهو أن يوهم أحد غيره بقوله أو فعله عكس ما يريده به من المكروه، من خدع الضب إذا أوهم حارشه أنه يريد الخروج من الجهة التي أدخل الحارش فيها يده، ثم يخرج من جهة أخرى لئلا يرقبه الحارش فيصطاده.

والاشتراك هنا شكل من وجهين:

أولهما: أنه إذا أمكن للمنافقين أن يخدعوا المؤمنين بإظهارهم جميل القول وحسن المعاملة وإعلانهم الايمان، فلا يمكنهم بحال أن يخدعوا قيوم السماوات والأرض، العليم بما تنطوي عليه حنايا الضمائر، وما تكتنفه أعماق النفوس.

ثانيهما: إذا كان الخدع من ديدن المنافقين فليس هو من شأن المؤمنين، لأنه صفة مذمومة، اللهم إلا ما استثنى من خدع العدو في الحرب لأجل إحراز النصر. وقد يحمد من المؤمن التغاضي والصفح اللذان قد يتوهم أنهما ناشئان عن البله، كما جاء في الحديث " المؤمن غر كريم " وهو معنى قول الفرزدق:
استمطروا من قريش كل منخدع   إن الكريم إذا خادعته انخدعا
وقول ذي الرمة:
تلك الفتاة التي علقتها عرضا   إن الحليم وذا الاسلام يختلب
فلا عجب إن كانوا مخدوعين بظواهر أعمال المنافقين؛ لأن من شأنهم إحسان الظن وغض الطرف عن الهفوات، مع توقد فطنهم ونفاذ بصائرهم، غير أنه لا يحمد بحال أن يكون شأنهم شأن المنافقين في إظهار غير ما يبطنون وإعلان خلاف ما يسرون.

وإذا كان صدور الخدع من المؤمنين ممتنعا فأحرى أن يمتنع من عالم الغيب والشهادة الذي هو على كل شيء قدير.

ومن الظاهر بداهة أن الخداع لا يكون إلا لضعف الخادع وقوة المخدوع، وإذا كان هذا في البشر فكيف يمكن صدور مثله ممن لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

وأجيب عن الأول بوجوه:

أولها: أن الخداع قد يصدر من أحد لغيره فيصادف غير مقصوده، كمن يخدع عامل الحاكم أو وكيله فينبه بأن صنيعه هذا يتجه إلى الحاكم، وهكذا شأن المنافقين، فهم قصدوا بخداعهم المؤمنين الذين صُنِعوا على عين الله وأحيطوا بكلاءته وشُمِلوا برعايته، فنبه أولئك المنافقون المخادعون بأن خداعهم للمؤمنين هو في حقيقته خداع لله سبحانه، إذ هو الكفيل بنصر عباده ودفع المكاره والأذى عنهم.

ثانيها: أن صورة صنيعهم مع الله سبحانه صورة صنيع المخادع، فهم يظهرون الايمان ويبطنون خلافه، ويدعون الانخراط في سلك المؤمنين وهم أكثر ما يكونون بعدا عنهم وكيدا لهم، على أنه لا يبعد أن يكون هذا التعبير بالنظر إلى معتقداتهم الفاسدة ونواياهم السيئة في حق الله تعالى، فإن كثيرا منهم كانوا من اليهود، واليهود لا يتورعون عن مثل هذا الاعتقاد، كيف وهم الذين حكى الله عنهم قولهم:

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7