الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ }

من أساليب القرآن التفنن في الخطاب، فبينا تجده يواجه طائفة من الناس مواجهة الحاضر بالأمر أو النهي أو التذكير أو التقريع أو الوعد أو الوعيد تجده يتحدث عن تلك الطائفة حديثه عن الغائب ليرسخ العبرة في نفوس القارئين والمستمعين، وليعمم حصيلة ما سلف من الحديث على جميع المستفيدين، وأول ما كان من ذكره لأخبار بني إسرائيل وأحوالهم في هذه السورة ورد بأسلوب الخطاب لهم لتذكير أعقابهم الموجودين بما أنعم الله عليه من فواضله التي قصروا في شكرها، بل بالغوا في كفرها، كتفضيلهم على العالمين بكثرة النبوات وتعاقب الرسالات بينهم، وإنجائهم من آل فرعون بما أهلك به عدوهم، وإيتاء موسى الكتاب والفرقان لتنجية أرواحهم من ردى الضلال كما نجيت أبدانهم من الهلاك بالعذاب أو الغرق وتيسير وسائل العيش الرغد لهم بسوق النعم إليهم، وما كان مع هذا كله من تعنتهم على نبيهم موسى عليه السلام في طلب ما لم يجعل الله لهم إليه سبيلا، ومبالغتهم في الإِعنات حتى اتخذوا معبودا لهم من دون الله سبحانه إلى غير ذلك مما مر ذكره، ثم ولى ذلك بيان تنوعت فيه الأساليب بحيث ذكر تارة حكمهم وحكم غيرهم ممن له تعلق بأسباب الرسالات، ووجهوا تارة بالخطاب مرة أخرى، والتفت إلى خطاب المؤمنين في شأنهم تارة أخرى، والسياق لا يزال في بني إسرائيل.

وفي هذه الآية جيء بما لم يذكر من قبل من الأحكام العملية المشروعة لهم سواء ما كان منها خاصا بعبادتهم لربهم، أو كان فيما يختص بالتعامل بين أفراد الأسر، أو يعم جميع أفراد المجتمع الذي يعيشون فيه.

وبما أن شرعية ما ذكر هنا لا تختص ببني إسرائيل ذكر هذا التشريع بأسلوب الغيبة لا الخطاب ليستفيد من حكمه المؤمنين، وإنما خوطبوا عندما ذكر نقضهم لهذه العهود.

واختلف في أخذ هذا الميثاق، فقيل: كان أخذه عندما رفع فوقهم الطور، وإليه الإِشارة بقوله: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ... } الآية. وقيل هو الميثاق العام الذي أخذه الله على البشر جميعا كما صرح به قوله سبحانه: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ } ويضعفه أنه غير خاص ببني إسرائيل، والسياق هنا يقتضي أنه ميثاق أخذ عليهم من أنفسهم، وقيل: هو ميثاق منزل في التوراة، وقيل: على لسان موسى عليه السلام.

والعبادة سبق بيانها في الفاتحة الشريفة، وهي تستلزم العقيدة الصحيحة، إذ لا بد للعابد من اعتقاد عظمة المعبود، واستشعار خوفه ورجائه، واستحضار إحسانه وبطشه، وذكرها بصيغة الخبر دون الأمر يفيد التأكيد عليها لأن هذا شأن الأوامر إذا صبت في قوالب الأخبار، لأن مدلولاتها أنزلت منزلة الأمور الواقعة لما تقتضيه أهميتها من سرعة امتثالها، وقيل: بأن الأصل أن لا تعبدوا إلا الله، أو بأن لا تعبدوا فحذفت أن على الوجه الأول، ومع الباء على الوجه الثاني فارتفع الفعل الذي كان منصوبا بها على حد قوله تعالى:

السابقالتالي
2 3 4 5 6