الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ ٱللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } * { بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } * { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

الواو عاطفة، والمعطوف عليه قيل هو قوله: { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } ، وعلى هذا فهو عطف قصة على قصة، وقيل: هو قوله: { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } ، وعليه فهو عطف جملة على جملة، فتكون الجملة المعطوفة حالية كالمعطوف عليها، ومؤدى ذلك التعجيب من طمع المؤمنين أو بعضهم في إيمانهم مع أن هذه هي عقيدتهم التي اصطبغت بها أذهانهم، كما أن تبديل كلام الله بعدما سمعوه شأن عرف به فريق منهم من قبل، وهو قول أبي حيان في البحر، وقيل المعطوف عليه هو قوله: { يَكْتُبُونَ... } الخ أي فعلوا ذلك وقالوا لن تمسنا النار، وهو قول الإِمام ابن عاشور، وذكر مناسبته له، وهي أن قولهم: { لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ } دل على اعتقاد مقرر في نفوسهم يشيعونه بين الناس بألسنتهم قد أنبأ بغرور عظيم من شأنه أن يقدمهم على تلك الجريمة وغيرها، إذ هم قد آمنوا من المؤاخذة إلا أياما معدودة كتب عذابها على جميعهم فهم لا يتوقون الإِقدام على المعاصي لأجل ذلك، فبالعطف على أخبارهم حصلت فائدة الإِخبار عن عقيدة من ضلالاتهم، ولموقع هذا العطف حصلت فائدة الاستئناف البياني إذ يعجب السامع من جرأتهم على هذا الإِجرام.

وبيان ذلك أنهم اعتقدوا أنهم لا نجاة لهم من هذا العذاب سواء أقلوا من المعاصي أم أكثروا، فلذلك لم يبالوا بمعصية يرتكبونها أو حرمة ينتهكونها أو واجب مقدس يضيعونه وقد بيّن لنا الحق تعالى في وسورة آل عمران أن عقيدتهم هذه هذه مصدر نبذهم الكتاب وراء ظهورهم، وذلك حيث قال:أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ ٱللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [آل عمران: 23-24].

والأيام المعدودة التي زعموا أن عذابهم منحصر فيها، قيل: هي سبعة أيام لأن عمر الدنيا - حسبما زعموا - سبعة آلاف عام، فهم يعذبون يوما عن كل ألف عام، وقيل: أربعون يوما بقدر أيام عبادتهم العجل، وقيل: بقدر ما يقطعون ما بين طرفي النار لأن عرضها - حسبما زعموا - أربعون عاما وهم يقطعون مسيرة كل عام في يوم حتى يصلوا إلى شجرة الزقوم.

ووصف الأيام بأنها معدودة يؤذن بقلتها، فقد سلكوا مسلك العرب في تعبيرهم لاحتكاكهم بهم، وتأثرهم بأساليبهم، وقد كانت العرب تصف القليل بالمعدود، إما لعدم اعتنائهم بالحساب، وإما لأن الكثير ليس من شأنه أن يقاس بالعدد، بل بمقاييس أخرى، كالوزن والكيل، وقد سلكوا هذا المسلك حتى فيما لا يكال ولا يوزن.

ورد الله عليهم زعمهم هذا بقوله: { قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ ٱللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } لأن أمثال هذه القضايا لا يجوز أن يستند فيها إلا إلى ما بينه الله سبحانه فيما أوحاه إلى رسله، لأنها قضايا سمعية بحتة فلا حكم فيها للعقول.

السابقالتالي
2 3 4 5 6