الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } * { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوۤاْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } * { أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ }

كان الحديث فيما تقدم موجها إلى بني إسرائيل بأسلوب الخطاب الجامع بين تذكيرهم بالنعم، والتشهير بهم بكفرانها، وإحضار ما كانوا يرونه من الآيات الداعية إلى الإِيمان، الرادعة عن العصيان، وتقريعهم على التعنت المستمر - مع ما كانوا يشاهدونه - وصدودهم عن أوامر الحق حتى يلجأوا إلى قبولها بما لا يدع لهم مناصا عن القبول؛ وهنا ثُني عنان الخطاب إلى مسامع المؤمنين ليتلى عليها جانب آخر من مساوئ بني اسرائيل، تحذيرا من دسائسهم، وتنفيرا من صنيعهم، وفي أثناء هذا السرد الطويل لسيئات اليهود وسوآتهم تأتي وقفات يواجهون فيها بالخطاب، كما وُوجهوا به من قبل.

وبما أن أهل الكتاب على بقية من علم النبوات لما بقى في أيديهم، على أصله من الكتاب الذي أوتوه، كان المؤمنون يرجون منهم المسارعة إلى الإِيمان بالنبي الخاتم محمد عليه أفضل الصلاة والسلام الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإِنجيل، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا، إذ ليس شأنهم في ذلك كشأن العرب الأميين الذين طال بهم العهد في ظلمات الجاهلية، فلم يبق لهم شيء من نور الوحي يهتدون به، فعدواتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناشئة عن جهلهم الذي يشامله أحيانا الحسد الناشئ عن تنافس البيوتات في الشرف والرفعة.

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن خفيا عند أهل الكتاب، فإن الله قد أودع ما عندهم من الكتاب من نعوته الكاشفة عن حقيقة أمره وآياته الدالة على صدق نبوته ما لا يدع لهم مجالا للشك فيه، ولا عذرا في ترك تصديقه ومناصرته على ما جاء به من الحق، كيف وهم أقرب الناس عهدا بالنبوات والوحي؟ وقد أخذ الله عليهم الميثاق بألسنة أنبيائهم أن يؤمنوا به ويناصروه:وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ إِصْرِي قَالُوۤاْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَٱشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ ٱلشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } [آل عمران: 81-82]، وهذا العهد وإن كان في ظاهره مأخوذا على النبيين فهو في حقيقته، مأخوذ على أممهم لأن الله علم أن أولئك النبيين لن يدركوا عهد نبوته عليه أفضل الصلاة والسلام، وإنما تدركه أعقاب أممهم، فكان هذا الواجب حتما عليهم، وهذا العهد لازما في رقابهم، وما كونه على ألسنة النبيين دونهم إلا إمعان في توكيده، فإن الهدى لم يأتهم إلا من طريقهم، والحق لم يدركوه إلا ببيانهم، فنكثهم لهذا العهد ما هو إلا رد لما جاءهم به أنبياؤهم من الحق والهدى.

وقد ظل صوت البشارة الإِلهية بمبعث خاتم النبيين يتردد في أسماع أهل الكتاب من تلاوة الكتاب الذي أوتوه لم يُخفته التحريف الذي شوه وجه ذلك الكتاب، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا، متطلعين إلى مبعثه بكل لهفة وشوق، غير أن الحسد بأن كان من ولد إسماعيل ولم يكن من ولد إسرائيل هو الذي حال بينهم وبين اتباعه عندما منّ الله به على الإِنسانية.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9