الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }

عطف المذكور هنا على ما قبله بـ " ثم " لإِفادة المهلة الرتبية التي كثيرا ما تفيدها هذه الأداة العاطفة في عطف الجمل بعضها على بعض، وذلك أن من شأن الآيات الجلية والمعجزات الحسية أن ترق لها القلوب وتتأثر بها النفوس فإذا كانت آثارها عكس ذلك فهي حرية بأن يعجب منها ويستغرب من شأنها.

فمع ما ذكر من الآيات لا يبقى في نفوس السامعين شك في أن الذين خصوا بها سيقلعون عن كل غي ويرجعون عن كل شطط إلا أن الواقع لما كان خلاف ذلك عطف بيانه بـ " ثم " للاتنقال بهم من النتيجة التي كانوا يرجونها إلى النتيجة التي صاروا يرونها.

والمشار إليه بذلك قيل هو هذه الآية وحدها وهي إحياء قتيل بضربه ببعض حيوان أُمِيت، وقيل: هو جميع الآيات والنعم والعقوبات التي تتابع ذكرها من قوله سبحانه: { وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ... } لأن كلا من ذلك من دواعي الرشد والإِقلاع عن كل غي، وكلا الأمرين محتمل.

وفي قوله: { مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ } تأكيد للتعجيب من حالهم.

وذهب الإِمام محمد عبده إلى أن الذين نودي عليهم بالقسوة هنا هم الذين جاءوا بعد سلفهم الأولين الذين شاهدوا تلك الآيات، واستدل لما ذهب إليه بهذا العطف المقتضي للمهلة، وهو قول غير سديد، فإن ثم كما تفيد المهلة الزمنية تفيد المهلة الرتبية، بل ذهب كثير من علماء الإِعراب إلى أنها إن عطفت جملة على أخرى لا تفيد إلا المهلة الرتبية، وقد سبق بيان ذلك، والتأريخ الإِسرائيلي المستفاد من القرآن ومما بأيدي اليهود أنفسهم من كتب يعتبرونها سواء كانت مقدسة أو غير مقدسة يدل على مدى قسوة قلوب الذين عاصرهم موسى عليه السلام منهم، وغلظ أكبادهم، والتواء مسلكهم، وهذا الذي أدى بهم إلى تحريم الأرض المقدسة عليهم، فبقوا في التيه يترددون أربعين سنة حتى انقرض ذلك الجيل وعقبه جيل له خصائص إيمانية ففتح الله على أيديهم الأرض واستخلفهم فيها، وجعل فيهم أنبياء وجعلهم ملوكا، وآتاهم من فضله ما فضلهم به على عالمي زمانهم، حتى نشأ فيهم مرة أخرى الداء العضال الذي كان في آبائهم الأقدمين، فأبدلهم الله بقوتهم ضعفا، وباجتماعهم تشتتا، وضربت عليهم الذلة والمسكنة، وباءوا بغضب من الله.

وعلى قول الإِمام محمد عبده فالبعدية الواردة في الجملة المعطوفة - وهي قوله: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ } - واضحة لأنها بعدية زمانية، وأما على القول الذي اخترته فقد يتبادر منها إشكال، ذلك لأن القسوة حاصلة فيهم قبل القصة وأثناءها، وبعدها إن قلنا إن الاشارة بذلك خاصة بهذه القصة بالذات، كما أنها حاصلة فيهم في جميع أحوالهم وهم يرون آيات الله تعالى، وينعمون تارة بلطف آلائه، ويتململون أخرى تحت وطأة بلائه إن قلنا إن الإِشارة شاملة لكل ما سبق ذكره عنهم من إنجائهم من عدوهم، وابتلائهم مرة بالنعم وأخرى بالنقم، وينجلي عنكم غيم هذا الإِشكال عندما تعلمون أن البعدية لا يلزم أن تكون زمانية بل تكون أيضا باعتبار بُعدِ الوصف الذي يليها في الذكر في درجات الخير أو دركات الشر، ومن أمثلة ذلك في القرآن قوله تعالى:

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7