الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }

تمكن الضلال من نفوس الكافرين:

حال هؤلاء الذين كفروا تدعو إلى الاستغراب وتبعث الحيرة في نفوس السامعين، ما بالهم لا يؤمنون، وقد توفرت دواعي الايمان، فهو سبب سلامة الدنيا وسعادة العقبى، وقد برزت معالمه ووضحت مسالكه، وتبرأ من كل أسباب الشك ودواعي اللبس، ليس فيه ما لا تستسيغه العقول المبصرة وتميل إليه الطبائع السليمة، فإذا طرق مسامع الناس ما تقدم في الآية السابقة من استواء الانذار وعدمه عليهم، حاروا من ذلك ولم يدركوا السبب الذي أدى بهم إلى هذه الحالة، حيث استولى الضلال على عقولهم وهيمن العناد على نفوسهم، فلذلك عقبت تلك الآية بهذه ليكون ما فيها كالتعليل لما تقدم، فهي مع تقريرها لسابقتها كاشفة عن علة ما فيها، ولا ينافي ذلك ما قيل إن جملة ختم الله على قلوبهم استئناف بياني يفيد جواب سائل يسأل عن سبب كونهم لا يؤمنون.

ومن ناحية أخرى هي مقابلة لجملة { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } ، فتلك مشعرة بتمكن المؤمنين من الهدى والثناء عليهم بارتقائهم في درجاته، وهذه مشعرة بتمكن الضلال من نفوس الكافرين وإحاطته بها حتى لم يعد للحق سبيل إليها، كما أنها مشعرة بذمهم على انحطاطهم في دركات الضلال.

والختم والكتم أخوان، كما قال الزمخشري، لأن تقاربهما اللفظي يشعر بالتقائهما في المعنى، وحقيقته في المحسوسات كالختم على الاناء بمعنى سده، والختم على الكتاب بوضع علامة - مرسومة في خاتم - عليه ليمنع ذلك من فتحه.

واختُلِف في المراد بالختم هنا:

فذهبت طائفة من مفسري السلف إلى أن الخَتم واقع حقيقة على القلوب، ومن ذلك ما رواه ابن جرير عن الأعمش، قال: أرانا مجاهد بيده فقال كانوا يرون أن القلب في مثل هذا - يعني الكف - فإذا أذنب العبد ذنبا ضم منه - وقال بإصبعه الخنصر هكذا - فإذا أذنب ضم - وقال بإصبع أخرى، فإذا أذنب ضم - وقال بإصبع أخرى - هكذا حتى ضَمَّ أصابعه كلها، قال: ثم يطبع عليه بطابع. قال مجاهد: وكانوا يرون أن ذلك الرَّيْن.

واختار هذا القول ابن جرير والقرطبي، وعضداه بما رواه الترمذي - وصححه - والنسائي وابن ماجة وابن جرير نفسه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المذنب إذا أذنب ذنبا كان نَكتَة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى يُغلف قلبه وذلك الران الذي قال الله جل ثناؤه: { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [المطففين: 14] ".

ووجه الاستدلال بالحديث أنه يفيد أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلفتها، وإذا أغلفتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله عز وجل والطبع، فلا يكون للايمان إليها مسلك ولا للكفر منها مخلص.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8