الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُوۤاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } * { قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ فَٱفْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ } * { قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ ٱلنَّاظِرِينَ } * { قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } * { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي ٱلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ ٱلآنَ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ }

هذه القصة من الأحداث الواقعة في عهد موسى عليه السلام، ذكرت بعد سابقتها مع تقدمها عليها بقرون، لأن القرآن الكريم لا يراعي في ذكره الأحداث تسلسل وقوعها وإنما يأتي بها للعبرة والذكرى كما سبق، ويلحظ اختلاف هذه القصة عن سوابقها في العرض، فقد تميزت عنها ببيان وتفصيل لم يكونا للقصص المتقدمة، وهذا لأن سائر هذه القصص جاءت مفصلة في القرآن المكي فاكتفى بالإِشارة إليها هنا عرضا للتنبيه والذكرى وإقامة الحجة على بني اسرائيل المعاصرين للوحي الذين كانوا مقصودين بهذا الخطاب بينما لم يكن ذكر لهذه القصة في غير هذا الموضع، فكانت جديرة بهذا البيان.

وهي كسائر القصص المذكورة ترسم صورة في مخايل قرائها وسامعيها للنفوس الإِسرائيلية وما اعتادته من العنت والإِلحاح وعدم الاقتناع والوثوق بأقوال الرسل، وما ينشأ عنه ذلك من تبلد الأذهان وزيغ الأفكار وخبث الطوية وجفاء الطبع.

ولعل بعض الذين في قلوبهم مرض حاولوا الطعن والتشكيك في القرآن، لذكره هذه القصة مع خلو التوراة منها، وكفى ردا عليهم أن القرآن أعظم حجة وأنصع برهانا من كل كتاب، فإن الله تكفل بحفظه من كل عابث ومحرف، ولم يكن هذا الصون والرعاية للتوراة ولا لغيره من الكتب السابقة، فكم فيها من تحريف وتبديل وزيادة ونقص؟ فغير بعيد أن تكون من ضمن ما انتزعته الأيدي المحرفة من التوراة على أن الإِمامين محمد عبده وابن عاشور لم يستبعدا أن يكون في التوراة ما يشير إليها وهو ما في سفر التشريع الثاني (تثنية) الإِصحاح الحادي والعشرين أنه إذا وُجد قتيل في الأرض التي أعطاها الرب لإِسرائيل واقعا في الحقل لا يُعلم من قتله يخرج الشيوخ والقضاة ويقيسون إلى المدن التي حول القتيل، فما كان منها أقرب إلى موضعه يأخذ شيوخها عجلة من البقر لم يحرث عليها، ويأتون واديا دائم السيلان لم يحرث فيه ولم يزرع فيكسرون عنق العجلة في الوادي، ثم يتقدم الكهنة من بني لاوي، ويغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على العجل صارخين بقولهم: أيدينا لم تسفك هذا الدم وأعيننا لم تبصر، اغفر لشعبك إسرائيل الذي فديت يا رب، ولا تجعل دم بريء في وسط شعبك إسرائيل، فيغفر لهم الدم.

وبداية هذه القصة قوله تعالى: { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَٱدَّارَأْتُمْ فِيهَا } وإنما قدم اللاحق فيها على السابق رعاية للمقام، فإن ما ذكر من قبل كان نداء على بني إسرائيل بضلال الفكر وسوء التصرف في مواجهة ما يأمرهم به موسى عن الله عز وجل وما يجريه الله على يديه من آيات بينات تنادي بأنه رسول من الله لا ينطق إلا بوحيه ولا يتصرف إلا بأمره، وفي طي ذلك تذكير بآلاء الله الداعية إلى شكره بطاعة أمره والاستجابة لرسوله، وما ذكر هنا لا يختلف عن هذا السياق فهو من ناحية خبر عن تعنتهم على نبيهم وإصرارهم على مخالفة أمره حتى فيما هم فيه أحوج ما يكونون إلى الطاعة والامتثال لدرء الفتن عنهم، ومن ناحية أخرى هو تذكير بالنعمة السابغة، وهي وجود المخلص لهم من شر أحاط بهم، فقد روي أن الحادثة المشار إليها - وهي وجود قتيل بين ظهرانيهم لا يعرفون قاتله - دفعت بأسباطهم الى الفرقة والشقاق، فكان كل سبط يدفع التهمة عن أفراده ويقذف بها في صدر سبط آخر حتى كادوا يتداخلون بالسلاح لولا أن قيض الله من أولي الفطنة منهم من ردهم إلى الاحتكام إلى موسى عليه السلام.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10