الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ فَٱنفَجَرَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ ٱللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ }

لا تزال الآيات متساوقة في مساق تعداد النعم التي لقيها بنو اسرائيل وهم في أمسّ الحاجة إليها، فتفجير الماء من حجر صلد، بضربة من موسى بعصاه، وجريانه متوزعا في جداول بعدد الأسباط يُعد أكثر من نعمة، فتيسير الماء بغير عناء نعمة لا يقدر قدرها لأنه من الأشياء التي تشتد إليها ضرورة النفس وتتوقف عليها سلامة الحياة، والنعمة يزداد قدرها بمسيس الحاجة إليها وما أحوجهم في الصحراء التي كانوا فيها إلى الماء، وكونه بطريقة خارقة للعادة تطمئن بها النفس ويقوي بها الإِيمان نعمة ثانية، وانقسامه إلى جداول بعدد الأسباط حتى لا يزدحموا عليه فيتنازعوا نعمة ثالثة.

وأكثر المفسرين على أن هذا الاستسقاء كان في التيه، وعليه فالمذكور في هذه الآية متأخر زمنا عما ذُكر في الآية التي قبلها، فترتبا ذكرا بحسب ترتبهما زمنا، وذهب بعضهم إلى خلافه، وهم الذين يطبقون ما سرده القرآن من أحداث أهل الكتاب على التواريخ المتداولة بين أهل الكتاب أنفسهم وذلك أنهم حملوا القصة المشار إليها في الآية على ما يتداوله اليهود من أنهم لما نزلوا في رفيد يم، بعدما خرجوا من برية سين، وقبل وصولهم الى برية سيناء في الشهر الثالث من خروجهم عطشوا ولم يكن بالموضع ماء، فتذمروا على موسى، وقالوا أتصعدنا من مصر لنموت وأولادنا ومواشينا عطشا، فأمره الله أن يضرب بعضاه صخرة هناك في حوريب، فضرب فانفجر منها الماء.

وفي بعض نصوص التوراة ما يدل على أن هذه الحادثة كانت بعد خروجهم من برية سيناء، وحلولهم في رقادين.

وهذا الاضطراب يبعدنا عن الثقة بنقولهم والاستناد إلى تواريخهم.

وذكر الإِمام محمد عبده أن كثيرا من أعداء الاسلام وجهوا إلى القرآن العظيم سهام انتقادهم بسبب عدم ترتب ذكره للأحداث بحسب ترتبها في الوقوع، ورد عليهم بما حاصله: أن القرآن ليس كتابا تاريخيا معنيا بسرد الوقائع مترتبة بحسب أزمنة وقوعها، وإنما الغاية من ذكره لها بعث العبر وإثارة العظات ببيان النعم متصلة بأسبابها لتطلب بها، وبيان النقم بعللها لتتقى من جهتها، لذلك كان إيراده للقصص بالأسلوب الأبلغ في التذكير والأدعى إلى التأثير مع عدم الالتفات إلى أزمنتها.

ونسب إلى بعض الباحثين في تأريخ هذا العهد ترجيحهم لهذا الاسلوب في التقديم والتأخير، وأنهم يقولون بأنا أياما ستأتي يستحيل فيها ترتيب الحوادث والقصص بحسب تواريخها لطول الزمن وكثرة النقل مع حاجة الناس الى معرفة سير الماضين، وما لها من النتائج والآثار في حال الحاضرين، ولا طريق إلى ذلك إلا النظر في أسباب ونتائج الأحداث من غير تفصيل ولا تحديد لجزئيات الوقائع بالتأريخ، فإن مراعاة ترتيبها لا يتوقف عليه الاعتبار بها وإنما هو من الزينة في وضع التأليف ولربما شغل الذهن عما تجب ملاحظته منها.

السابقالتالي
2 3