الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }

كان ما تقدم وصفا للكتاب استتبع وصف الذين استضاؤوا بمشكاته وأصغوا إلى مراشده فاتبعوا هديه، وسلكوا نهجه فجمعوا بين الاستقامة في الدنيا والفلاح يوم القيامة، وهذا الوصف في الحقيقة هو وصف للكتاب، لأنه هو الذي قادهم في النقلة من الضلال إلى الهدى، ومن الحيرة إلى البصيرة، ومن الخطر إلى السلامة، وكان جديرا بعد ذلك أن يقفي ذكرهم بذكر أضدادهم الذين أخلدوا إلى الضلال، وآثروه على الهدى، وأغمضوا أبصارهم لئلا ترى نوره وتشاهد جماله فينفذ أثر ذلك إلى بصائرهم، وسدوا آذانهم لئلا تسمع حجته فتلج إلى أفكارهم ووجدانهم، وهؤلاء فريقان:

فريق كان صريحا في منابذته للحق، مكشوفا في عداوته له.

وفريق كان ملتويا في أمره، يظهر للمؤمنين أنه على الايمان وما دعواه الايمان إلا ستار يرخيه على ما يكنه من الكفر ويضمره من الحقد.

الذين كفروا رانت الضلالة على قلوبهم:

والفريق الأول هو المراد بهذه الآية والتي تليها، وإنما قدم ذكره لاستواء ظاهره وباطنه في الكفر، وتظاهر سريرته وعلانيته على نصرة الباطل ومنابذة الحق، ولأن حالته كانت مكشوفة وضرره معلوما بخلاف الفريق الثاني فهو أقبح طوية وأسوأ حالا، وأخطر مآلا، وتعريته من لبوس الخداع يحتاج إلى بيان أوسع وعناية أبلغ، فلذلك أخر ذكره وجاءت بصدده إحدى عشرة آية متوالية.

وفصلت هذه الآية عما قبلها لما بينهما من كمال الانقطاع، فما تقدمها في ذكر الهدى والمهتدين، وهي في بيان الضلال والضالين، وصدرت بحرف التأكيد لاثارة الاهتمام بمحتواها، ولاستئصال رجاء المؤمنين في تراجع هذه الطائفة عن غيها وثوبها إلى رشدها، فالمعنيون هنا قد رانت على قلوبهم الضلالة واستولى على تفكيرهم الباطل، فتعفنت فطرهم وأظلمت عقولهم وتكدرت طبائعهم، فلم يعد للحق مساغ في نفوسهم.

واختلف المفسرون في المعنيين بالذين كفروا هنا، قيل: هم طائفة من اليهود الذين كانوا بنواحي المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبق في علم الله عدم إيمانهم. وهو الذي رواه ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنه -.

وقيل: هم قادة الأحزاب الذين قتلوا في معركة بدر. روى ذلك ابن جرير عن الربيع بن أنس، وهو قول طائفة من المفسرين، واستدل من قال بذلك بأن الواقع قد كشف عن هؤلاء أنهم لا تجدي فيهم الموعظة شيئا، فقد استوى فيهم الانذار وعدمه، وذلك أن الدعوة كانت تواجههم منذ انبلاج فجرها بقوارع نذرها، وبوارق حججها، وصواعق وعيدها، فلم يعيروها إلا آذانا صما، حتى حق عليهم قول الله فهلكوا شر مهلك، وشفى الله صدور المؤمنين إذ نصرهم عليهم فكان مهلكهم على أيديهم، ورجح ابن جرير أنهم أحبار اليهود الذين أصروا على محاربة الدين الحنيف، ومقاومة دعوة محمد صلى الله عليه وسلم حسدا منهم، مع أنهم كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم لما سبق عندهم من علم الكتاب، واستدل لذلك بأن ما قبل الآية كان ثناء على مؤمني أهل الكتاب، فكان جديرا أن يقفي ذكرهم بذكر أضدادهم وكشف سوء حالهم وبيان شر منقلبهم، لأنهم جميعا ينحدرون من سلالة واحدة، وإنما فرق بينهم الايمان والكفر.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد