الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَٰقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ }

هذه الآية وما بعدها غير خارجة عن سياق الآيات السابقة واللاحقة، ففيها تذكير بني إسرائيل بنعمة الله التي أسبغها عليهم، وقد توهم بعض المفسرين أنهما مقطوعتان عن هذا السياق، وأن ما فيهما لا يعدو أن يكون تذكيرا بشر ما ارتضوه لأنفسهم من الكفر بعد الإِيمان إذ اتخذوا العجل إلها من دون الله سبحانه، وجاهروا برفض الإِيمان إذ اتخذوا العجل إلها من دون الله سبحانه، وجاهروا برفض الإِيمان حتى يروا الله جهرة، وقد سرى إليهم هذا الوهم من اعتبارهم أن المعصية والعقوبة عليها لا يعدان من النعم، فالمعصية ناتجة عن الخذلان، وهو مغاير للتوفيق الذي يعد من أكبر نعمة الله على الإِنسان، والعقوبة - سواءً كانت إلهية محضة كالصعق أو كانت تكليفا إلهيا كالقتل - لا تعد إلا بلاء وشدة، فكيف تندرج مع الآلاء وتنتظم في سلك النعم، وقد غفل هؤلاء عن كون المعصية وعقوبتها لم تذكرا في هذه الآية والتي بعدها إلا ليبنى على ذكرهما ذكر ما وليهما من اللطف الإِلهي الذي لولاه لما بقيت لبني إسرائيل باقية، ولما كان للمخاطبين - في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم المقصودين بهذا التذكير - وجود.

ومما هو غني عن الذكر أن الله سبحانه قدير على أن يجمع لهم - على هذا الإِغراق في الضلالة واللجاجة في الكفر - عقاب الدنيا وعقاب الآخرة، غير أنه تعالى لسعة عفوه وواسع حلمه جعل هذه العقوبة الدنيوية - وهي قتل أنفسهم - تكفيرا لما ارتكبوه، لأنها كانت علامة صدق توبتهم ومنتهى إذعانهم على أن من فضل الله عليهم أن رفع هذه العقوبة عنهم قبل أن تستأصل شأفتهم، فكان هذا الرفع نعمة دنيوية جديرة بأن تقابل بالشكر من السلف والخلف، ولا يستغرب أن يشار إلى النعمتين بكلمة العفو الدالة على قبول التوبة ورفع عقاب الدنيا مع الوقاية من عقاب الآخرة، فإن ذلك من الإِيجاز المعهود في أساليب القرآن.

وما هذا العقاب الدنيوي إلا ضرب من ضروب التربية النفسية لهم، فإنهم قوم قست قلوبهم، وعتت نفوسهم، لما مردوا عليه من الكفر وألفوه من الضلالة، فكم عاندوا موسى عليه السلام وآذوه وأصروا على هوى أنفسهم واستكبروا استكبارا، وواجهو المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة بالصدود والتكذيب، فكانوا أحرياء بأن يؤدوا ضريبة دموية تكون تطهيرا لخطاياهم وإصلاحا وتقويما لنفوسهم.

والقوم هم الجماعة المترابطة المتآزرة، وسُمُّوا كذلك لأنهم جميعا يقومون بمصالح بعضهم بعضا، ولما كانت هذه هي مهمة الرجال غالبا كان إطلاقه عليهم وحدهم هو الأغلب، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى:لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ }

السابقالتالي
2 3 4