الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }

الاشارة متوجهة إلى المتقين الموصوفين بما سلف والأصل فيها أن تكون لمشاهد معين، غير أن الاستعمال قد يجعلها لغير الحاضر إذا سبقها من وصفه ما يجعل حقيقته مستحضرة في الذهن، فإن تصور أحواله، وإدراك صفاته يجعلانه في حكم المشاهد، وقد يتبع الاشارة الآتية بعد صفات المشار إليه حكم، فيدل ذلك على أن تلك الصفات هي منشأ ذلك الحكم، لأنها هي السبب في استحضار ذات المشار إليه، فالحكم للمشار إليهم هنا بأنهم على هدى من ربهم، وأنهم هم المفلحون ناتج عن وصفهم بتلك النعوت الفاضلة التي تميزهم عن غيرهم من الناس، ومثله مألوف في كلام العرب، ومنه قول حاتم الطائي:
ولله صعلوك يساور همه   ويمضي على الأحداث والدهر مقدما
فتى طلبات لا يرى الخمص ترحة   ولا شبعة إن نالها عد مغنما
إذا ما رأى يوما مكارم أعرضت   تيمم كبراهن ثمت صمما
يرى رمحه أو نبله ومِجَنَّه   وذا شُطَبٍ عَضْب الضريبة مجذما
وأحناء سرج قاتر ولجامه   عتاد أخى هيجا وطرفا مسوما
ويغشى إذا ما كان يوم كريهة   صدور العوالي وهو مختضب دما
إذا الحرب أبدت ناجذيها وشمرت   وولى هذان القوم أقبل معلما
ثم قال عقب ذلك:
فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه   وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمما
وجملة أولئك على هدى مستأنفة استئنافا بيانيا مترتبا على ما وُصفوا به من النعوت من قبل، فإن السامع إذا وقعت تلك الصفات التي ميزوا بها في سمعه تطلع إلى ما يترتب عليها من فائدتها، وإيثار اسم الاشارة على ذكر الضمير الذي يعود إليهم لأن الاشارة تجعل جميع ما وصفوا به مستحضرا في ذهن السامع، إذ الاشارة هنا ليست إلى ذواتهم فحسب، وإنما هي إليها وإلى الصفات التي تلبست بها فميزتها عن سائر الذوات، وفي ذلك ما لا يخفى من التنويه بالصفات المشار إليها، وبما يعقب اسم الاشارة من الأحكام الناشئة عنها.

المتقون مختصون بالهُدى:

والمشار إليه هو فريق المتقين، وقد سبق في كلامنا ما يفيد ترجيح أن جميع الصفات التي لحقتهم هي صفات جارية عليهم جميعا، إذ هم فريق واحد وليسوا بفريقين خلافا لمن قال ذلك اعتبارا لحالتهم قبل التلبس بالايمان، وهم يوافقوننا أن الاشارة هنا - كالتي بعدها - يراد بها كلتا الطائفتين لأنهم جميعا متمكنون من الهدى ومنقلبون إلى الفلاح، وإنما شذّ الامام محمد عبده فقال بتعدد المشار إليه كما تعددت الاشارة، ورأيه مبني على ما تقدم نقله عنه من أن المهديين منقسمون إلى طائفتين؛ طائفة أخذت تبحث عن الحق وتحاول الوصول إليه، وأخرى وصلت إليه فعلا.

فأولى الاشارتين إلى الطائفة الأولى، وثانيتهما إلى الأخرى.

السابقالتالي
2 3 4 5