الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ نَجَّيْنَٰكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلاۤءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ }

شروع في تفضيل النعم بعدما ذكرت مجملة في لفظ (نعمتي) المفيدة للاستغراق، لأن تعريف اسم الجنس بأل أو الإِضافة دال على قصد جميع أفراد مدلولاته، وقبل الشروع في هذا التفصيل ذُكِّروا بنعمة كبرى تعد أساسا لهذه النعم - وهي تفضيلهم على العالمين - وذلك لأجل تحريك هممهم الخاملة عن الخير وإثارة عزائمهم المتوانية عن الحق كما سبق تفصيله.

وقصة تنجية بني إسرائيل من عذاب فرعون وآله، وإهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض جاءت مفصلة في القرآن المكي السابق نزوله على هذه السورة، وإنما ذكرت هنا عرضا لقصد التذكير، والقرآن الكريم - كما قلت من قبل - ليس هو كتابا تأريخيا معنيا بعرض أحداث الزمن وقضايا التأريخ وإنما هو كتاب دعوة يخاطب الإِنسان من حيث هو إنسان، وبما أن كل جيل من هذا الجنس هو حلقة في سلسلة الأجيال المتعاقبة منذ خلق الإِنسان وإلى نهاية وجوده في هذه الأرض كان جديرا أن تستفيد هذه الأجيال من جميع الأحداث التي مرت بمن قبلها، فإن السنن الكونية التي تحكم الإِنسان - بمشيئة الله - لا تتبدل، فأسباب الفوز والنجاح والاستقرار والاطمئنان وأسباب الفشل والاضطراب والذمار هي هي لا تختلف باختلاف العصور.

دعوة الاسلام إلى النظر في أحوال الأمم

وإذا كانت جميع الأحداث جديرة بأن يستفاد منها فإن أولى ما يستفاد منه تلك الأحداث التي مرت بصفوة خلق الله من النبيين والمرسلين وهم يبلغون رسالات الله ويؤدون أماناته إلى أممهم وما يترتب على ذلك من تكذيب الأمم لهم واعتراضهم عليهم ووقوف المتكبرين في وجوههم وقطعهم السبل عليهم وما تسفر عنه المعركة - بعد جهد دائب وعناء طويل - من انتصار الحق وانهزام الباطل:لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [يوسف: 111].

وما أحق هذه الأمة التي أنزل عليها القرآن وأكرمت بخاتم رسل الله عليه أفضل الصلاة والسلام أن تعتبر - وهي تتلو كتاب ربها - بكل ما جرى على الأمم من قبلها في حال برها وفجورها، وشكرانها وكفرانها، واجتماعها وتشتتها، فإن سنن الله لا تتبدل:وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً } [الأحزاب: 62]، وما أجدرها بالإِطلاع على سنن الاجتماع في الأمم السابقة والمعاصرة لها ذلك لأنها أمة دعوة، وصاحب الدعوة مضطر الى الاستفادة ممن سبقه في هذا المضمار، ومضطر إلى معرفة أحوال الناس ودراسة أوضاعهم ليدرك كيف يدعو بينهم ويصل الى إقناعهم، وحسبنا دليلا على ذلك أن الله تعالى أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم في بداية تأريخ الدعوة بمكة المكرمة والمؤمنون قلة تنشب فيهم مخالب الجاهلية وأظفارها، أنزل عليه نبأ ما يجري في العالم من أحداث آن ذاك وأنبأه بما وصل إليه العراك الطويل بين الدولتين الكبريين السائدتين في العالم المتحضر يومئذ من انتصار دولة فارس الشرقية على دولة الروم الغربية وما سيعقب هذا الانتصار من انتصار معاكس لم يكن أحد يسحب له حسابا أو يفكر فيه، وذلك قوله عز من قائل:

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9