الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَٰوةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَٰشِعِينَ } * { ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـٰقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ }

في هذا الخطاب عود على الأمر بعدما ولى الأوامر السابقة ذلك التأنيب اللاذع على أمرهم الناس بالبر ونسيان أنفسهم وهو اسلوب عجيب في التربية النفسية إذ في هذا الأمر ما يشعرهم أنهم مظنة الطاعة والامتثال، وإن صدر ما صدر منهم من المعايب التي كانت منشأ ما لحقهم من الإِنكار والتقريع.

ولم يخرج الخطاب عن مواجهة بني اسرائيل وإن قال من قال: انه هنا للمسلمين وهو القول الذي صدره قطب الأئمة - رحمه الله - في التيسير. ومنشؤه توهم قائليه أن الأمر بالصبر والصلاة يتنافى مع الحالة التي كان عليها بنو إسرائيل إذ لا فائدة لهم مما أُمروا به مع إصرارهم على عدم الإِيمان بنبوة النبي الخاتم عليه أفضل الصلاة والسلام، وقد أنكر أكثر المفسرين - كالفخر الرازي في المتقدمين، وابن عاشور في المتأخرين - هذا القول لما يلزمه من تفكيك النظم الشريف، واستند ابن عاشور أيضا في انكاره إلى أن وجود حرف العطف ينادي على خلافه، وأن قوله: { إِلاَّ عَلَى ٱلْخَاشِعِينَ } ، مراد به إلا على المؤمنين حسبما بينه قوله: { ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمْ } الآية، اللهم إلا أن يكون من الإِظهار في مقام الإِضمار وهو خلاف الظاهر مع عدم وجود الداعي، وأتبع ذلك قوله: والذي غرهم بهذا التفسير توهم أنه لا يؤمر بأن يستعين بالصلاة من لم يكن قد آمن بعد، وأي عجب في هذا وقريب منه آنفا قوله تعالى: { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَٱرْكَعُواْ مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ } خطابا لبني إسرائيل لا محالة ".

وقد صدق وأجاد الإِمام ابن عاشور في نفيه العجب عن كون هذا الخطاب لبني اسرائيل، وإنما العجب من التعامي عما دلت عليه الآيتان وغيرهما من أن الكفار مخاطبون بالعبادات وسائر فروع الشريعة خطابهم بأصل الإِيمان، وقد سبق تحرير هذه المسألة في الآية التي استدل بها بما يكشف اللثام عن وجه الحقيقة في المراد بالخطاب.

والتلاؤم بين هذه الآية وسوابقها واضح، فإن الله عز وجل عندما ابتدأ خطاب بني اسرائيل ذكرهم نعمه، وأمرهم أن يوفوا بعهده ليوفي بعهدهم، وطالبهم بالإِيمان بما أنزل مصدقا لما معهم، وحذرهم أن يكونوا أول كافر به، وأن يشتروا بآياته ثمنا قليلا، وأمرهم بتقواه، ونهاهم عن لبس الحق بالباطل، وكتمان الحق، ودعاهم إلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والركوع مع الراكعين، ووبخهم على أمر الناس بالبر ونسيان أنفسهم، وهذه المطالب في جملتها شاقة على أمثال بني اسرائيل الذين توارثوا عادات مألوفة، وعقائد معينة تميز الشخصية الإِسرائيلية من بين سائر الناس، ولا ترضى لها التبعية والانقياد مع ما جبلت عليه نفوسهم من الحرص على جمع المال والرغبة في الترقي إلى المناصب العالية، ومما يضاعف المشقة أن النبي الذي طولبوا أن يؤمنوا به ينتمي الى غير أصولهم النسبية، وقد بيّن سبحانه في هذه الآية لهم المخرج من مأزق هذه المشقة وهو استعانتهم بالصبر والصلاة.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8