الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَٰبَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }

الخطاب لبني اسرائيل ذكروا نعمة الله عليهم، وطولبوا بالوفاء بعهده، وخوطبوا بما خوطبوا به من الأوامر والنواهي، وهو اعتراض بين سابقه ولاحقه لأنه توبيخ توسط أو امر، ومن دلائل كونه اعتراضا عدم اقترانه بالعاطف كما هو الغالب في الجمل الاعتراضية، وفائدته لفت أنظارهم، وشد انتباههم إلى ما هم متلبسون به من العيوب التي يجدر بمن كان مثلهم - في معرفة الحق والدعوة إليه وتلاوة الكتاب - أن يكون أنأى عنها وأحذر، وهو من دواعي تدارك الأمر بامتثال ما وُجه إليهم من الأوامر، واجتناب ما خوطبوا به من النواهي لتكفير سيئاتهم؛ وتغطية سوآتهم، وبهذا تتضح مناسبة الآية لما قبلها.

والاستفهام إنكاري يتضمن التعجيب.

ولفظة البر دالة على السعة وضعا كالبَرِّ - بالفتح - وتستعمل في توسعة الخلق والإِحسان في المعاملة، ومفهومها الشرعي يرادف التقوى بدليل قوله تعالى:وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰ } [البقرة: 189]، وقوله بعد ذكر خصال البر:أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } [البقرة: 177]، فتندرج تحته العقيدة الناصعة، والأعمال الصالحة، سواء كانت من شعائر الله، أو المعاملات الأسرية أو الاجتماعية، أو الأحوال النفسية كما هو واضح في قوله عز من قائل:وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلْكِتَابِ وَٱلنَّبِيِّينَ وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلاةَ وَآتَى ٱلزَّكَاةَ وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَٱلصَّابِرِينَ فِي ٱلْبَأْسَآءِ وٱلضَّرَّاءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ } [البقرة: 177]، وأحسن ما يقال إن البر شامل لكل ما فيه خير للإِنسان عاجلا أو آجلا.

والنسيان خلو الذهب من أمر بعد الإِلمام به، فمن لم يعرف شيئا من قبل لا يوصف بأنه ناسيه، ويطلق على الترك إطلاقا مجازيا لما فيه من إهمال المتروك كما هو الشأن في الناسي والمنسي، وعلى ذلك تحمل الآية كما يحمل قوله تعالى:نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة: 67]، فهؤلاء اشتغلوا بغيرهم فأمروه بالبر وأهملوا أنفسهم إذ لم يحملوها عليه.

وسوغ ابن عاشور أن يكون النسيان هنا حقيقيا لأنهم لما طال عليهم الأمد في التهاون بالتخلق بأمور الدين والاجتراء على تأويل الوحي بما يمليه عليهم الهوى بغير هدى صاروا ينسون أنهم متلبسون بمثل ما ينهون عنه فإذا تصدوا الى مواعظ قومهم أو الخطابة فيهم، أو أمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر كانوا ينهونهم عن مذام قد تلبسوا بأمثالها إلا أن التعود بها أنساهم إياها فأنساهم أمر أنفسهم بالبر لنسيان سببه، وقد يرى الإِنسان عيب غيب لأنه يشاهده، ولا يرى عيب نفسه لأنه لا يشاهدها، ولأن العادة تنسيه حاله، ودواء هذا النسيان هو محاسبة النفس.

والأنفس جمع نفس وهي ذات الشيء وحقيقته، وتطلق على الروح كما في قوله تعالى:

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8