الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ وَٱرْكَعُواْ مَعَ ٱلرَّٰكِعِينَ }

هذا الخطاب كالذي قبله موجه إلى بني إسرائيل في حال إعراضهم عن الإِسلام، ومكابرتهم للحق وصدهم عن الإِيمان، فهو دليل قاطع على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، فهم مطالبون بالعبادات وسائر الواجبات العملية، كما أنهم مطالبون بالإِيمان، ويدل على ذلك قول الله تعالى:كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ ٱلْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ ٱلْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلُخَآئِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ } [المدثر: 38-46]، فانظروا كيف جمعوا في إجابتهم بين تركهم الصلاة وعدم إطعامهم المسكين، وخوضهم مع الخائضين وتكذيبهم بيوم الدين، ومع هذه النصوص تجد الأشعرية ومن حذا حذوهم ينكرون مخاطبة الكفار بفروع الشريعة، ويرون أنهم لا يعذبون إلى على عقيدة الكفر وحدها، وقد ركب كثير من علمائهم الشطط في هذه المسألة فشنعوا على القائلين بأن الواجبات العملية مشتركة بين المسلم والكافر، وأن كفر الكافر ليس عذرا في تركها، وتجد مفسريهم كثيرا ما يعنون بالدفاع عن فكرتهم هذه ويرجمون القائلين بخلافها بالتخطئة العنيفة، غير أن أكثرهم عندما وصلوا إلى هذه الآية فبهرتهم حجتها لجأوا إلى الصمت اللهم إلا ما كان من الشيخ أبي منصور الماتريدي الذي حكى عنه الألوسي أنه حمل الأمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة هنا على مجرد الإِيمان بهما، ولعمري إن صح تصريف القرآن بمثل هذا التأويل لم تنهض بشيء منه حجة، ولم يثبت بنص منه حكم لاحتمال أن تحمل جميع أوامره ونواهيه على مجرد الإِيمان بها لا على تطبيقها والعمل بمقتضاها، وقد استبعد الألوسي نفسه هذا الجواب كما استبعد القول بأن الخطاب موجه إلى المسلمين وليس موجها إلى بني إسرائيل، لما يلزمه من تفكك الجمل وخروج الكلام عن نسقه، فما قبل الآية وما بعدها خطاب لبني إسرائيل فما الذي يقحم وسطه خطاب المسلمين، على أنه مما اتفق عليه أن الأمر لا يعطف على آخر إن كان المأمور في المعطوف غير المأمور في المعطوف عليه إلا مع القرينة نحويُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا وَٱسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ } [يوسف: 29] وقد حصر بعضهم القرينة في النداء كما تقدم، وما يقولونه - من أن المشرك لا يتأتى منه القيام بالعبادات ما دام متلبسا بالشرك فهو إذن غير مخاطب بها - باطل من أساسه، إذ الشرك لا يعدو أن يكون كسائر الموانع التي يمكن التخلص منها، فالحدث الأصغر والأكبر مانعان من الصلاة ولكن لا يعني ذلك أن المحدث غير مخاطب بها، وأنه مخاطب برفع الحدث وحده، بل هو مخاطب بها مع مخاطبته برفع الحدث، وكذا المشرك مطالب بالإِيمان والعبادات معا، ولا تسقط عنه العبادات مع تركه الإِسلام، لأن الاسلام شرط لصحتها وليس شرطا لوجوبها، ولعله التبس شرط الوجوب بشرط الصحة على إفهام القائلين بعدم تكليف المشركين بفروع الشريعة.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد