الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَٰطِلِ وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

هذه الآية - بما فيها من جمل - معطوفة على مجموع ما تقدم من قوله: { ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ }...الخ، ففي الآيتين السابقتين خصوصا في قوله: { وَلاَ تَشْتَرُواْ } تحذير من الضلال، وفي هذه تحذير من الإِضلال، والإِضلال لا ينشأ إلا عن الضلال، كما أن هدى الغير لا يكون إلا بعد هدى النفس.

واللبس الخلط بين الأشياء المتشابهة حتى يتعذر تمييز بعضها من بعض أو يتعسر، ويتعدى بالباء واللام وعلى، بحسب اختلاف مقتضى الكلام، والباء هنا للإِلصاق لأنهم منهيون عن الخلط بين الحق الذي أنزله الله عليهم، والباطل الذي استوحوه من هوى أنفسهم فأضافوه إلى المنزل، وهذا كما يقال خلطت البر بالشعير، والماء باللبن؛ وذهب الفخر الرازي إلى أنها الباء الآلية المسماه بباء الاستعانة، كالتي في قولك كتبت بالقلم، وعليه فالمعنى لا تجعلوا الحق ملتبسا على الناس بسبب الباطل الذي تأتون به، وهو ما يوردونه من الشبه الحائلة دون وصول حقيقة الحق إلى أفهام عوامهم، وهذا الذي ذهب إليه الفخر جوزه الزمخشري من قبل، وقال باحتماله كثير من المفسرين، واستدل له الفخر بقوله تعالى:وَجَادَلُوا بِٱلْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ } [غافر: 5]، وكونها للإِلصاق أقرب لأن متعلقها مشتق من اللبس، وهو دال على الخلط بين شيئين أو أشياء، بخلافها في آية الكهف فهي متعلقة فيها بما تصرف من المجادلة أولا، وما اشتق من الإِدحاض ثانيا، والفرق بينهما وبين اللبس واضح.

والحق معروف وقد سبق الكلام فيه، والباطل نقيضه مأخوذ من بطل إذا فنى، ولذا قالوا إن أصدق الشعر قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل....   
ومشتقاته دالة على الزوال، ومنها قولهم بطل الأمر إذا لم يكن صحيحا، ومعناه أنه ليس له بقاء، وكذا تمسية الشجاع بطلا لتلاشي شجاعات خصومه بين يديه، والمراد بلبسهم الحق بالباطل خلط ما أوتوه من الكتاب بما أضافه إليه الأحبار من إفكهم، أو ما ألصقوه به من التأويلات الباطلة، كما سبق قبل قليل، وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسر الحق بالصدق، والباطل بالكذب، وقال آخرون إن الحق هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والباطل إنكار أحبار اليهود أن تكون صفات النبي المنتظر منطبقة عليه، وقيل: الحق هو صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم، والباطل صفات الدجال، وذلك أن في كتب بني إسرائيل ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ونعوته، وذكر الدجالين الذين يدعون النبوات وهم كاذبون، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وانكشفت صفاته لأحبار اليهود اضطرمت في قلوبهم نار الغيظ لكونه من ولد إسماعيل فادعو أنه من الدجالين مع معرفتهم بنعوته التي تميزه عنهم، وذكر بعض السلف أنه آوى إلى المدينة المنورة - وكانت تسمى يثرب - جماعة من ذرية هارون عليه السلام فرارا من اضطهاد الدولة الرومية التي أذاقت بني إسرائيل ألوانا من العذاب، وكانت هذه الجماعة تحمل علم التوراة واختاروا المدينة لأنهم على يقين أنها دار هجرة الرسول المنتظر، فكانوا يتطلعون إلى بعثته، ويتدارسون صفاته، وتتوارث علم ذلك أجيالهم، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجر إليها ضاقت صدورهم لعدم كونه من بني إسرائيل فشوهوا الحقيقة وكتموا الحق.

السابقالتالي
2 3