الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ قُلْنَا ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } * { وَٱلَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَآ أُولَـٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ }

أعيد الأمر بالهبوط ليترتب عليه غير ما ترتب على الأمر الأول، فالأمر السابق ذُكر مقرونا ببيان الإِنتقال من حياة الصفاء والنعيم إلى حياة الكدر والبؤس، ولبيان أن الحياة التي ينتقلون إليها ذات أمد محدود، ونهاية متحومة يتضح ذلك من قوله تعالى فيما تقدم:بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ } [البقرة: 36] وذلك أن آدم عليه السلام لم يكن يشعر هو ولا زوجه عندما كان في الجنة بما سيدور في هذه الحياة التي خلقها لأجلها بين ذريتهما من عداوات وأحقاد، وحسد وبغضاء، وكذب واحتيال، وغش وخداع، وتعالى بعضهم على بعض وما يتبع ذلك من التناحر والتفاني، فأراد الله أن يعرفهما طبيعة الحياة المنتقل إليها عندما أمرهما بالإِنتقال حتى يكونا على بصيرة من أمرهما.

الجزاء من جنس العمل

والأمر بالهبوط يترتب عليه بيان أن الناس مجزيون في الآخرة بحسب أعمالهم في الدنيا، ومن المسلمات عند الجميع أن النفس البشرية مطبوعة على حب الحياة، فإذا ما أوذن الإِنسان أن حياته على الأرض محدودة استحكم فيه القلق واستولى عليه الاضطراب إلا إذا علم ما يتبع مرحلة الفناء التي تلي الحياة، واطمأن إلى وجود حياة أخرى، وإذا لم يستبن الإِنسان من طريق الوحي فإن القلق والاضطراب لن ينفكا عنه، إذ المصير مبهم، والمستقبل مُعَمَّى لا يمكن اكتناهه بالعقل، ولا بوسائل العلوم التجريبية، وإنما الوحي وحده هو الذي يزيح ستره ويكشف سره، وقد أراد الله أن يرفع عن صدر آدم وزوجه هموم التفكير في هذا المستقبل الغامض فآذنهما بأن هذه الحياة المنصرمة تتبعها حياة سرمدية يلقي فيها كل عامل جزاءه، وفي ذلك طمأنينة لهما بأنهما لن يخسرا الخلود في النعيم إذا ما عملا صالحا وهما يرجوان من الله أن يوفقهما لصالحات العمل بعد تلك الورطة التي أوقعهما فيها الشيطان فكانت لهما درسا لا ينسيانه، كما أن في ذلك تبشيرا لهما بأن كل صالح من ذريتهما سينقلب إلى هذا المنقلب، وسيلقى هذا الجزاء الخالد، فإن كانت الجنة التي أهبطا منها هي جنة الخلد فإنهما سيعودان إليها بتوفيق الله مع عدد لا يحصى من ذريتهما، وإن كانت غيرها سيبدلان بها ما هو خير منها وأبقى.

وبجانب ذلك فإن في هذا التبشر والإِنذار حفزا لهما ولكل لبيب من ذريتهما على المسارعة إلى البر والتوقي من الفجور، فإن المنقلب إما إلى جنة عالية وإما إلى نار حامية، والبقاء في كل منهما ليس له أمد، ولا مصير بين هذين المصيرين، فالرابح لا يوازي ربحه شيء والخاسر قد خسر كل شيء، وحسبهما وحسب ذريتهما عظة وعبرة تلك الهفوة التي صدرت منهما فتجرعا غصص عاقبتها.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8