الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَٰنُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ } * { فَتَلَقَّىٰ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَٰتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ }

يحكي الله لنا في هاتين الآيتين وما بعدهما قصة مرحلة انتقالية مر بها أبو البشر عليه السلام وقد كابد منها المشقة وتجرع الغصص، وعانى عنتها ولا تزال ذريته تعاني من هذا العنت، ومرد ذلك كله إلى الخروج عن حدود أمر الله بتزيين الشيطان، وقد نتج عن ذلك انتقاله من مقر الطمأنينة والراحة إلى محل الاضطراب والتعب، وإذا كان عليه السلام استقبل الحياة على هذه الأرض التي هي مقر خلافته بهذه المحنة القاسية والملمة الفادحة، فإن لنا في ذلك دليلا وأي دليل على أن حياتنا على الأرض ليست حياة نعيم وهناء وراحة واستقرار، وإنما هي حياة مصائب ومتاعب، وجهد وبلاء، والشواهد على ذلك قائمة من طبيعة الحياة نفسها، فهي لا تكاد تحلو حتى تمر، ولا تزهر حتى تذبل، ولا تقبل حتى تدبر، ولا تمنح حتى تسلب.
جُبلت على كدر وأنت تريدها   صفوا من الأقذار والأكدار
ومن أحسن وأبلغ وأصدق ما وُصفت به الدنيا من قول شاعر كان غارقا في حب الدنيا الى الأذقان ولم يدع بابا من أبواب اللهو والمجون والخلاعة إلا طرقه وولجه وهو أبو نواس شاعر البلاط العباسي الماجن في عهد هارون الملقب بالرشيد فقد قال في وصف الدنيا:
إذا اختبر الدنيا لبيب تكشفت   له عن عدو في ثياب صديق
الشيطان عدو ماكر

وإذا كان هذا العدو الماكر الشيطان الرجيم عليه لعنة الله استطاع بأساليبه الخبيثة أن يوقع صفي الله آدم عليه السلام في حبائل المعصية حتى فكه الله منها، فما بالكم بذرية آدم الذين يندر منهم من يتفطن لمكائده ويتنبه لمداخله، وأحسن ما نستفيده من هذه القصة هذه العبرة البالغة التي تجعل اللبيب حذرا في جميع أوقاته، فطنا في كل حالاته، يراقب الشيطان بعيني الخائف الوجل، لا يدري من أي ثغرة يلج عليه، وفي أي حال يفضي إليه.

والهمزة في أزَلّ لتعدية زل، والزلل كالزلق وزنا ومعنى، والأصل فيها استعمالها في انزلاق القدم، وتُوسع فيهما فأطلقا فيما يؤدي إلى الهلاك أو إلى بلاء شديد حسيا كان أو معناويا، ومنه الإِزلال المسند إلى الشيطان هنا فإنه بمعنى الإِغواء، وذهب بعضهم إلى أن أزل هنا بمعنى أزال لأن القدم إذا زلت زالت من مكانها، ويؤيد هذا التفسير قراءة حمزة والحسن وأبي رجاء " فأزالهما " وانتقد هذه القراءة ابن جرير الطبري جريا على عادته في انتقاد القراءات المتواترة التي لا تروق له، وهو غلط شنيع كما ذكرت من قبل، والباعث له إلى هذا الإِنتقاد ما توهمه من التكرار لمعنى الإِزالة في قوله سبحانه: { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } لعدم الفارق عنده بين مدلول لفظي الإِزالة والإِخراج، والحقيقة عدم التكرار كما سيأتي بيانه إن شاء الله.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد