الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }

في هذه الآية وما بعدها يحكي الله سبحانه وتعالى لنا قصة خلق الإِنسان ليتحمل أمانة الله على عاتقه. وتبدأ هذه القصة بإعلان منزلة هذا الكائن من مخلوقات الله في الملأ الأعلى، والقرآن ليس كتابا تاريخيا يُعني بسرد أحداث التاريخ وقضاياه، كما أنه ليس كتاب هندسة، ولا كتاب طب وما إلى ذلك، وإنما هو كتاب رسالة إلهية موجهة إلى الفطرة الإِنسانية، وفي إطار هذه الرسالة تلتقي الدعوة إلى الله مع التعليم والتشريع، والأمر والنهي، والوعظ والإِرشاد، والترغيب والترهيب، ولذلك فإنه عندما يتعرض للتاريخ أو لأي ناحية أخرى يكون تعرضه بقدر ما يعزز جانب هذه الرسالة ويُجليِّ بُرهانها كما تجد ذلك واضحا فيما يقصه من أنباء النبوات وأحوال الأمم، وأحداث الزمن، ولم تأت فيه قصة لقصد التسلية أو الفكاهة، فهو أرفع شأنا من ذلك، وأجل قدرا، وقد أخبر الله جلَّ شأنه نبيه صلى الله عليه وسلم أن قصص القرآن هو أحسن القصص كما أن حديثه هو أصدق الحديث في قوله:نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلْغَافِلِينَ } [يوسف: 3].

وقد يتبادر لقارئ القرآن أول مرة عندما يجد القصة الواحدة مذكورة في العديد من السور أن ذلك تكرار، ولكن إذا عاد إلى السور ومحتوياتها، ومقاصدها، والمعروض من القصة فيها، وأسلوب العرض، أدرك أن ذلك بعيد عن التكرار. فإن السورة لا تعرض القصص بطريق السرد كما هو شأن القصاصين، وإنما تأتي منها بقدر ما يخدم الموضوع الذي ذُكرت خلاله القصة، وبحسب ما يتلاءم مع هذا الجو، فقصة موسى عليه السلام مثلا عُرضت في سور شتى ولكن هذا العرض لم يأت على وتيرة واحدة، فتجدها تارة مطولة، وتارة مختصرة، وفي كل مرة يتميز العرض بفوائد شتى من جوانب القصة نفسها، ومن جانب العبر والعظات التي تمليها، وإذا علمت أن القرآن نزل في ثلاث وعشرين سنة واجه فيها تحديات المشركين العرب ومكر أهل الكتاب، ودسائس المنافقين، ومؤامرات الشعوب المختلفة أدركت السر في تعدد المقامات التي تستوجب ذكر القصة الواحدة إما للتذكير وإمَّا لتفنيد المزاعم أو لغير ذلك من الأغراض.

وجميع القصص القرآنية تحكي أحداثا واقعة، وأحوالا متقدمة، وليست مسوقة لغرض التمثيل فحسب - كما يجنح إلى ذلك بعض المتأخرين - فإن باب التمثيل معروف، وعندما يأتي في القرآن يأتي مقرونا بالقرائن اللفظية الدالة على قصده لتعميق المفاهيم في النفس، وترسيخ المعاني في الأذهان، فإن النفس - كما سبق - هي للمحسوس أَألف وبماهيته أعلم.

ولا توجد وثيقة تاريخية بشرية تحكي قصة بداية خلق الإِنسان، وتمكينه في الأرض، ولذلك كان الذين يعتمدون على أنفسهم في استلهام ذلك مُتخبطين في متاهات حائرة سالكين طرائق قددا، لم تقم على مزاعمهم حجة، ولم تعززها قرينة، بل كثيرا ما يكشف الواقع العلمي عكس ما يقولون، وإنما المستند في ذلك إلى خبر الله تعالى الذي خلق الإِنسان فسواه، ومنّ عليه فأعطاه، وهو العليم بكل شيء.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد