الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ } * { ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَٰقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأرْضِ أُولَـۤئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ }

كان المشركون واليهود والمنافقون لا يفتأون عن إثارة الشُّبَه حول القرآن الكريم؛ بغية أن يحولوا بين هدايته وبين الناس، وكان الله تعالى ينزل فيه من الآيات ما يبدد الشُّبَه التي ينسجونها، ويفنّد المزاعم التي يفترونها، ومن ذلك استنكارهم ضرب الأمثال، فقد جعلوا منه تكأة لزعمهم أن القرآن ليس هو من عند الله، مع إدراكهم أنه نزل بلسانهم يخاطبهم بما كانوا به يتخاطبون.

الأمثال تزيد المعاني رسوخا:

وضرب الأمثال مما اشتهر عند العرب، سواء فيما صغر أو كبر، ومن ذلك قولهم " أجمع من ذرة " و " أضعف من فراشة " ، و " آكل من السوس " و " أسمع من قراد " ، واختُلف في السبب الذي نزلت من أجله الآية.

روى الواحدي في أسباب النزول عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى لما أنزل قوله:إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ... } [الحج: 73]، وقوله:مَثَلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ ٱلْعَنكَبُوتِ... } [العنكبوت: 41]، قال المشركون أي شيء يصنع بهذا فأنزل الله: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا }.

وروى ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس وآخرين من الصحابة أن الآية وما بعدها نزلتا ردا على المنافقين الذين استنكروا ضرب المثلين السابقين في السورة، فقالوا: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، وهذا الذي رجحه ابن جرير لأنه أمس بالسورة وأنسب مع السياق.

وروى عبدالرزاق عن قتادة نحو ما رواه الواحدي عن ابن عباس وروى عنه وعن الحسن أنه لما ذكر الذباب والعنكبوت في القرآن ضحك اليهود، وقالوا ما يشبه أن يكون هذا كلام الله، فأنزل الله تعالى الآية ردا عليهم.

واستغرب ابن كثير ما أخرجه عبدالرزاق عن قتادة لأنه يقتضي أن تكون الآية مكية وهي بخلاف ذلك، ويمكن الجمع ما بين هذه الروايات جميعا، فاستنكار المشركين بمكة كان عند سماعهم في سورة العنكبوت ذكرها وذكر الذباب في سورة الحج، على أن الصحيح أن سورة الحج مدنية وإن قيل بمكيتها - وأن اليهود استنكروا ذلك عندما تليت عليهم السورتان بالمدينة بعد نزولهما بزمن، بناء على أن السورتين جميعا مكيتان، وأن المنافقين استنكروا ضرب المثلين السابقين في هذه السورة، فجاء الرد مبكتا لهذه الطوائف الثلاث في هذا الموضع، بعد ذكر جانب مما استنكروه من الأمثال.

ومن المعلوم أن اليهود والمنافقين كانوا يشكلون بالمدينة جبهة واحدة، بل جل المنافقين هم من العنصر اليهودي، فلعل الطائفتين جميعا شرقتا عندما أنزل الله المثلين في المنافقين، فأخذوا يتلمسون ما يتصورونه عيبا لا يليق بكلام الله في القرآن، وقد كانت الطائفتان على اتصال بمشركي قريش وغيرهم من المناوئين لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمحاربين لدعوته، وقوله تعالى في وصف الذين يضلون بالأمثال: { ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } يرجح أن استنكار المثل كان من اليهود لأنهم هم المعروفون بهذه الأوصاف، وأضاف إلى ذلك ابن عاشور أنهم كانوا لا حظ لهم في البلاغة، وكانوا من شأنهم التشاؤم من مدلولات الألفاظ.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد