الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ } * { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ }

هذا انتقال من إثبات وحدانية الله سبحانه إلى تقرير نبوة عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومجيئه بعده لأن الإِيمان بالألوهية والايمان بالنبوة لا يفترقان إذ لا يتم أحدهما إلا بالآخر، والخطاب موجه إلى الناس المأمورين بالعبادة فيما تقدم وما كان هناك من اختلاف، هل هم جميع الناس، أو المنافقون والمشركون، أو اليهود أو العرب الجاهليون، أو المشركون والمنافقون واليهود؟ فهو هنا كذلك، والصحيح ما صححته ثم من ان الخطاب شامل لجميع الناس، ولا إشكال في شموله للمؤمنين وإن لم يكونوا على شك في شيء مما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يراد به تقرير إيمانهم ومضاعفة يقينهم، على أن مثل هذا الخطاب كان للرسول صلى الله عليه وسلم نفسه؛ في قوله تعالى:فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ ٱلَّذِينَ يَقْرَءُونَ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ } [يونس: 94].

ولم يُعلق هذا الشرط بإذا المفيدة للجزم بالوقوع، بل عُلق بإن المفيدة للشك في مشروطها، مع القطع بأن المشركين والمنافقين واليهود كانوا في ريب مما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم نظرا إلى أن ريبهم كان مستضعفا، ولم ينشأ إلا عن مكابرتهم للحق وتعاميهم عن الحقيقة، وإلا فالقرآن من وضوح الحجة ونصوع البرهان بمكان لا يرقى إليه شك، ممن استنار فكره واتقد ذهنه وانجلت بصيرته، وذهب بعضهم إلى أنّ إنْ هنا بمعنى إذا، وهو لا يصح لعدم ثبوته عن أحد ممن يُعتد به.

وقد سبق تفسير الريب والمراد به هنا الشك، وبه قال أئمة التفسير من الصحابة فمن بعدهم، والتعبير بالتنزيل دون الانزال - قيل - لدلالة التفعيل على الكثرة، وقد كان من بواعث شكوك هؤلاء الشكاك في القرآن أن إنزاله لم يكن دفعة، وإنما كان نجوما بحسب الوقائع والأحداث، وهو لم يختلف - حسبما كانوا يرون - عن عادة الناس في كلامهم، فالشاعر لا يلقي بقصائده دفعة واحدة، والخطيب لا يجمع جميع خُطَبِه في مقام واحد، وإنما ينظر كل منهما إلى المناسبات التي تستوجب الحديث عنها نظما أو نثرا، ومثل ذلك شأن الكتاب والقصاص، وقد رأى أولئك الذين شككوا في صحة نزول القرآن من عند الله، أنه لو كان حقا منه تعالى لكان له شأن من هذه الناحية مغاير لأحوال الناس، وقد حكى الله عنهم ذلك في قوله:وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } [الفرقان: 32]، وقد قيل لهم هنا: إن كنتم في شك منه بسبب ما ذكرتموه فَلْتَأْتُوا أنتم بمثل نوبة واحدة من نوبه وهي سورة من قصار سوره، أفاد ذلك الزمخشري، وتعقبه أبو حيان بأن دلالة التفعيل على الكثرة لا تخرج بالفعل عن اللزوم إلى التعدي، فالفعل اللازم إذا ضُعِّف يبقى على لزومه، والمتعدي يبقى كذلك متعديا، وإنما يُفهم من الفعلين وقوعه بالكثرة، مثال ذلك جَرَحَ وجَرّح، فإن الفعلين متعديان وإنما يمتاز المضعَّف عن المجرد بالدلالة على كثرة الوقوع، وإذا انتقل الفعل بالتضعيف عن اللزوم إلى التعدي نحو بان وبيَّن لم يدل تضعيفه على الكثرة، ومن هذا الباب نزل ونزَّل، فإن نزّل - بالتضعيف - لا يختلف عن أنزل في شيء، ويؤيد ذلك قوله تعالى: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } حيث ضُعّف الفعل ولم يُقصد به إلا المرة، وبهذا يتبين ان التعبير بالإِنزال تارة وبالتنزيل أخرى ليس لفارق بينهما، وإنما هو من باب التفنن في الكلام، وكثيرا ما يأتي لفظ التنزيل في القرآن فيما لا يحتمل التكثير إلا بضرب من التأويل البعيد، كقوله تعالى:

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10