الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } * { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَٰشاً وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

الآيات السابقة قسمت الناس إلى طوائف ثلاث، مؤمنة ظاهرا وباطنا، وكافرة ظاهرا وباطنا، ومذبذبة بين الطائفتين، مؤمنة في الظاهر وكافرة في الباطن، وبيّنت صفات كل طائفة، وما يؤول إليه أمرها، وجاء عقبها هذا النداء العام الموجّه الى عموم الناس على انقسام طوائفهم، يدعوهم إلى عبادة الله، ويذكرهم بمختلف آلائه وفي هذا النداء إيناس للنافر المستوحش مما سبق من قوارع الإِنكار، وتذكير للغافل بما تستوجبه نعم الله عليه من أداء شكرها بإخلاص العبادة لمن أسبغها عليه، وهو في حقيقته نداء موجه الى الفطرة الانسانية لايقاظها من نومها، وتنبيهها من غفلتها.

نداء الفطرة أنجح طرق التربية النفسية:

ونداء الفطرة يعد أنجح طريقة في التربية النفسية، ففيما تقدم من قواصف الانكار وصوادع الوعيد؛ كفكفة للنفس الطائشة عن غلوائها في الشر، وفي النداء الذي يتبع ذلك تذكير لها بأنها لم تزل - مع سوابق إعراضها وبعد شططها في الصدود - يراد لها الخير، ولا يُطلب منها إلا ما فيه مصلحتها، وبهذا الذي ذكرته ينكشف ما بين الآيات السابقة وبين هذه الآية وما بعدها من رباط.

ولطف الخطاب هنا بعد شدته هناك - للحكمة التي ذكرتها - لا ينافي اندراج الطائفة الأولى في عموم هذا الخطاب، فإن سلاسة القول كما تتألف النافر، وتقرب البعيد، تزيد الأليف ألفة، والقريب قربا، وتمنحهما باعثا نفسيا على إتيان ما يراد منهما من الخير، وتزيد همتهما نشاطا، وفكرتهما اتقادا، ورؤيتهما وضوحا، على أن تلك الطائفة المؤمنة نفسها لا تخلو عادة من تأثر بالوعيد الموجه إلى غيرها، لأن من شأن المؤمن أن يكون شديد الحذر، مشفقا على نفسه من انزلاق قدمه فيكون في عداد أهل الضلال.

وإذا كانت الآيات السابقة تثير الوجل وتبعث القلق في نفس المؤمن بهذا السبب، فإن هذا الخطاب يُفيض عليه الأنس والطمأنينة، فتتعادل في نفسه كفتا الخوف والرجاء.

وهذا الذي قلته هو الذي يقتضيه اللفظ، فإن تعريف الناس تعريف جنسي - إذ لا عهد - فيشمل جميع الناس على اختلاف طوائفهم.

ومن المفسرين من يخص هذا الخطاب بطائفتي الكفر والنفاق، وهو الذي رجّحه ابن جرير وعزاه إلى ابن عباس رضي الله عنهما، ومنهم من يرى أنه خاصّ بالمنافقين وحدهم، وعُزي إلى ابن عباس أيضا، ومنهم من يقول إنه خاص بكفار العرب، ومنهم من يقول إنه لليهود وحدهم، والتخصيص بغير مخصص تحكُّم، ويقوِّي العموم جواز التأكيد بما يفيد العموم في مثل هذا اللفظ، وجواز الاستثناء، وصُدر الخطاب بـ " يا " وهي أصل حروف النداء فيه، ولذلك ينادى بها القريب والبعيد على الراجح، خلافا لمن قال: إنها مخصوصة بالبعيد، وإن نودي بها القريب فلتنزيله منزلة البعيد، إما لسهوه وغفلته، وإما لاعتقاد البعد المعنوي بين المنادِي والمنادى، ولذلك ينادَى بها الله سبحانه وتعالى لأجل تنزيل المنادِي نفسه منزلة البعد لضعفه وعجزه وقصوره هضما لنفسه، واعترافا بما هو متلبس به مما يبعد عن مقامات الزلفى ودرجات المقربين.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد