الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }

هذا الكلام يفيد تقرير ما تقدم من أوصاف أهل النفاق وما يترتب عليها، ومن حيث إن التقرير في مضمونه التأكيد قُطع عما قبله، وقد يقتضي الحال أن يسأل السامع لأوصافهم المتلوة فيما تقدم عن منشأ تلك العجرفة وسبب ذلك الغرور، فيجاب { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } وهذا يعني أنه استؤنف استئنافا بيانيا، وهو من دواعي عدم العطف أيضا، ومن ناحية أخرى فإن هذه فذلكة لما سبق، ومن عادة الفذلكة أن تكون مقطوعة كما في قوله تعالى: { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ }.

والأصل في الاشارة أن تكون إلى متعين إما بحضور شخصه، أو بتعين وصفه، كما تقدم في قوله تعالى { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } ، والمشار إليهم هنا ليست شخوصهم كلها معلومة للرسول صلى الله عليه وسلم، كما يدل عليه قوله تعالى { لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } ، وثم الكثير من الأحاديث الدالة على أن جمهرة من المنافقين لم يكونوا متعينين بشخوصهم للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وإنما جازت الاشارة إليهم لما تقدم من الآيات الكاشفة لأحوالهم، المحددة لأوصافهم، التي جعلتهم كأنما يشاهدون رأي العين.

والاشارة هنا لا تفيد قربا ولا بعدا لعدم الاشارة إلى مكان المشار إليه.

والاشتراء هو أخذ المثمن ودفع الثمن، فهو كالابتياع، وذهب بعض أئمة اللغة إلى أن فعل وافتعل يتعاقبان في مادة الشراء، ولعلهم يستدلون لذلك بقول الشاعر:
فإني شريت الحلم بعدك بالجهل   
وانتقد ابن عاشور التسوية بينهما، وذكر أن الذي جرأهم عليه سوء التأمل في قوله تعالى:وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } [يوسف: 20]، فتوهموا أن الضمير عائد إلى المصريين، مع أن معاده واضح قريب وهو سيارة من قوله تعالى:وجاءت سيارة } [يوسف: 19]، أي باعوه، ثم قال: " وحسبك شاهدا على ذلك قوله "وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ ٱلزَّاهِدِينَ } [يوسف: 20] أما الذي اشتراه فهو فيه من الراغبين، ألا ترى قوله لامرأتهأكرمي مثواه } [يوسف: 21].

وللغويين أن يستدلوا لقولهم بقول الشاعر:
إن الشباب رابح من باعه   
فإنه من المعلوم أن آخذ الشباب هو الرابح وليس باذله، ومن الواضح أن البائعين كلاهما آخذ ومعط، فما المانع من جواز تعاقب الفعل والافتعال من كلتا الكلمتين في كل منهما.

وبما أن البيع والشراء يقتضيان استبدال شيء بآخر، أطلقت العرب الاشتراء على مطلق الاستبدال، ومنه قول الشاعر:
أخذت بالجمة رأسا أزعرا   وبالثنايا الواضحات الدردرا
وبالطويل العمر عمرا حيدرا   كما اشترى المسلم إذ تنصرا
وقول الآخر:
إنا بني نهشل لا ندعى لأب   عنه ولا هو بالأبناء يشرينا
ونحوه في البيع كقول الحماسي:
وما إن بعت منزلة بأخرى   حللت بأمره وبه تسير
وحمل جماعة من المفسرين الاشتراء هنا على هذا المعنى، ورأى آخرون أن إطلاق الاشتراء على اختيارهم الضلالة على الهدى، لأن من اشترى شيئا لا يشتريه إلا وهو فيه راغب، وفي ثمنه زاهد، ومن حيث إن هؤلاء زهدوا في الهدى ورغبوا في الضلالة، أُطلق على فعلهم الاشتراء، وهو من المجاز المرسل بعلاقة اللزوم.

السابقالتالي
2 3 4