الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ }

يسوغ هنا ما سبق في قوله { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } أن يعتبر قائل ذلك هو الله أو رسوله أو المؤمنون أو المنافقون أنفسهم، عندما يفكر بعضهم في عاقبة هذا النفاق وما يكلفهم من ابتكار الحِيَل وانتحال الأكاذيب لأجل درء التهم، وتحسين المظهر، فتكون إجابة أولئك الذين مردوا على النفاق وغرقوا فيه إلى الأذقان ما حُكي عنهم هنا وهناك، والمراد بالناس الذين جمعوا صفات الانسانية الكاملة، فلذلك اعتُبرت محصورة فيهم، وكأن من عداهم ليس من الانسانية في شيء، وروى ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن المراد بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان معه من المهاجرين والأنصار، الذين رسخت أقدامهم في الإِيمان، وانشرحت صدورهم باليقين، وعليه عول كثير من المفسرين، وقيل: المراد بهم من آمن من أهل الكتاب، كعبدالله بن سلام - رضي الله عنه -، وهو مبني على ما سبق ذكره من أن الخطاب لمنافقي اليهود، وقيل: المراد بهم الناس الذين يعتقدون فيهم كمال الانسانية ورقي الأفكار وإشراق العقول، كإبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم من النبيين الذين يفخرون بالانتماء إليهم.

النفاق يُزيِّن الباطل ويقبِّح الحق:

وعلى أي حال فإن هذا الوصف يصور لنا ما يصل إليه النفاق بأهله من تزيين الباطل وتمجيد ذويه، وتقبيح الحق وتسفيه أتباعه، وإعراضهم عن الناصح واستخفافهم بنصيحته، ولا عجب فإن الحق من دلائل صدقه استهانة المبطلين به، وإن من علامات كمال الفضيلة في الانسان، واتصافه بأرقى الصفات الانسانية؛ استخفاف سفهاء الأحلام به، ورميهم إياه بالمذام والنقائص، كما قال المتنبي:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص   فهي الشهادة لي بأني كامل
وليس ما نشاهده ونسمعه في هذا العصر من سخرية المفسدين بالمصلحين واستخفافهم بحلومهم، ونبزهم بالألقاب الشائنة، ولمزهم بالعبارات الجارحة، إلا امتداد لأحوال قديمة دأب عليها أولو الفساد، فكانت من علاماتهم التي بها يعرفون.

ومجيء هذه النصيحة بعد ما قبلَها لما في تلك من الحض على توقي الفساد، وما في هذه من الدعوة إلى التلبس بضده، وهو معنى ما قيل " التخلي قبل التحلي " فالنفس لا تتأهل لأن تكون وعاء للخير حتى تتطهر من أدران الشر، ولا يمكنها أن تتحلى بالفضائل المحمودة حتى تتخلى عن الرذائل المذمومة، وكيف يقرّ الإِيمان في نفس لوّثها الفساد، وألفت الشقاق والنفاق؟ اللهم إلا أن يتغير مسلكها، وتتبدل عاداتها، فتكون كأنما أنشئت نشأة جديدة بعيدة عن تلك الطباع التي كانت عليها، والمفاسد التي أحاطت بها.

ويرى ابن عاشور في تفسيره أن ذكر الناس هنا جار على سنن كلام العرب عندما يريدون إغراء المخاطب بشيء، وحضه على المسارعة إليه، فإنهم يستخدمون كلمة الناس وسيلة لتنبيه المخاطب بأن من عداه من هذا الجنس قد سبقوه إلى هذا الفعل، فجدير به أن لا يتوانى في اللحاق بهم، ومثل ذلك استخدامهم لها إذا ما قصدوا التسلية إو الإِئتساء كما في قول النهمي:

السابقالتالي
2 3 4 5