الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } * { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }

هذا هو ديدن المنافقين، ومسلك المفسدين، فإن الغرور يتغلغل في نفوسهم فيعميها عن الحق، ويبعدها عن الحقيقة، فإذا طولبوا بالصلاح، والكف عن الفساد، استخفوا بهذه المطالبة ونظروا إلى صاحبها شزرا، وأعاروه أذنا صماء زاعمين أن ما هم فيه وعليه هو عين الصلاح، وروح الإِصلاح، فكيف يطالبون بالكف عنه والتحول إلى نقيضه، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على ما وصلت إليه قلوبهم من المرض، وانتهت إليه أفكارهم من الانحراف، وبلغت إليه فطرهم من التعفن، وهو الذي أدى إلى انقلاب موازين الأمور عندهم، وانعكاس مقاييسها، فهم يرون الباطل حقا، والحق باطلا، والصلاح فسادا، والفساد صلاحا، وهكذا.

وليس ذلك مقصورا على ذلك الجيل من المنافقين الذين عاصروا نزول الوحي وشاهدوا بزوغ شمس الاسلام، فشرقوا لانتشار ضيائها، وجزعوا من عموم هداها، بل هذه هي سمة أهل النفاق، وطريقة أهل الفساد في كل عصر خصوصا عندما يستشري داؤهما في مجتمع أو شعب أو أمة، فلا تستغرب إن وصفوا المعروف بصفة المنكر أو ألبسوا المنكر حُلة المعروف، كما أشار إلى ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر لا يحتاج إلى أن يقام عليه برهان لوضوحه في مختلف العصور لا سيما هذا العصر الذي فتك فيه بالانسانية عامة، وبهذه الأمة خاصة داء الجاهلية العضال، تلك الجاهلية التي جُليت للناس في ثوب مهلهل برّاق محبوك بخيوط من الزور ومصبوغ بألوان من الخداع، فغرقت في ظلمات الجهل والأوهام حتى لم تعد تبصر الحقيقة أو تفرق بين الحق والباطل، فكم من مأساة ارتكبت في هذا العصر باسم العلم أو التقدم أو الحرية، وكم تهمة وُجِّهت فيه إلى الدين وأهله، وإذا خوطب أحد من هؤلاء المتشبثين بغروره، الغارقين في ضلاله، بآيات الله البينات ولّى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا.

ومن أمثلة ذلك ما كان من أحد الطواغيت - الذين طواهم الزمن - عندما طولب بتطبيق شرع الله، فأجاب ساخرا من هذه المطالبة وممن صدرت منه: " إن زماننا هذا أوسع من أن تتسع له شريعة الله " كأنما شرع الله الذي وسع السماوات والأرض، والذي قام على موازينه الوجود، أضيق مجالا وأقل عطاء في نظره من تلك الأوهام الضالة التي أُخرجت للناس في صورة قوانين لتبث في الأرض الفساد وتشيع الظلم بين الناس.

ومما شاع في أوساط كثير من أولئك الذين أصيبوا بهذا الداء الجاهلي الدفين، أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدخُّل غاشم في شئون الناس الخاصة، ومصادرة لحرياتهم الشخصية ضاربين عرض الحائط بقوله عز وجل:وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9