الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }

ذكر العلامة ابن عاشور في تفسيره أن الآية استئناف محض لعدّ مساوئ المنافقين، وأجاز أن تكون استئنافا بيانيا لجواب سؤال متعجب مما سمع عن الأحوال التي وصفوا بها من قبل في قوله تعالى { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ } ، فإن من يسمع أن طائفة تخادع الله وتخادع المؤمنين - وهم قوم عديدون - وتطمع أن خداعها يبلغها فيهم ما تريد، ولا تشعر بأن ضرر الخداع لاحق بها، يشعر بالعجب ويمتلئ بالاستغراب من شأن هذه الطائفة، وينشأ عن ذلك تساؤل منه كيف خطر ذلك بخواطرها؟ فجاء قوله في قلوبهم مرض بيانا منطويا على جواب هذا التساؤل، وهو أن قلوبهم انحرفت عن وضعها الطبيعي حتى بلغت إلى حد الأفن، ولهذا قدم الظرف وهو في قلوبهم، فإن في التقديم إيماء إلى الاهتمام وهي جديرة به، فإنها منشأ فكرة الخداع، ومن حيث أن المسؤول عنه ما نشأ عنها، كان انطواء الجواب على وصف حالها هو الأليق في مقام الخطاب.

والتعبير بالقلوب عن العقول معهود عند العرب كما تقدم، وتنكير مرض للدلالة على التعظيم.

والمرض: حالة تلم بالبدن فتخرجه عن اعتدال المزاج وصحة الأعضاء، وتؤدي بها إلى اختلال بعض وظائفها وأعمالها، وتعرض الألم لها، ويطلق على نفس الألم الذي هو أظهر آثاره، ويطلق على ما يلم بالنفس فيخل بكمالها ويخرج بها عن اعتدالها من الطبائع المذمومة والأخلاق الفاسدة، وهذا الاطلاق الأخير داخل في ضمن الاستعمال المجازي لهذا اللفظ بجامع أنه في استعماليه مؤد إلى الهلاك.

فالأمراض الجسمية مؤدية إلى هلاك الجسد وفوات المنفعة العاجلة، وهذا المرض النفسي مؤد إلى هلاك الروح وفوات المنفعة الآجلة، والبون بينهما كالبون بين قيمة الجسد والروح، وقدر الحياتين العاجلة والآجلة.

وفسر المرض هنا بالنفاق ابن عباس - رضي الله عنهما - كما رواه ابن جرير عنه. وأخرج عنه وعن ابن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم فسروه بالشك، وروى مثله عن الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد، وفي رواية عن عبدالرحمن قال هذا مرض في الدين وليس مرضا في الأجساد.

وهذه الأقوال وإن اختلفت ألفاظها فهي متحدة المعاني، فإن شأن المنافق أن يكون أسير شكه متخبطا في أوهامه، ولا ريب أن الشك ظلمة تخيم على العقل فتحيط به من جوانبه فلا ينفذ له نور إلى ما وراء المشاهدات المحسوسة، ولا يمتد له شعاع إلى ما خلف التكاليف من أسرار وحكم.

وإذا كانت العرب تطلق اسم المرض على الظلمة الحسية كما في قول الشاعر:
في ليلة مرضت من كل ناحية   فما يحس بها نجم ولا قمر

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد