الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }

فصراط هنا بدل من الصراط الذي ذكر من قبل، وهذا النوع من البدل يعبر عنه النحويون ببدل الكل من الكل، وزعم بعضهم بأن { صِّرَاطَ } الثاني غير { ٱلصِّرَاطَ } الأول، وكأنه نُوى فيه حرف عطف، واختلف هؤلاء في تعيينه، فجعفر بن محمد يرى أنه العلم بالله والفهم عنه، وبعضهم يرى أنه موافقة الباطن للظاهر في إسباغ النعمة، ومنهم من يرى أنه التزام الفرائض والسنن. ودعوى أن { صِّرَاطَ } الثاني غير الأول، ما هي إلا هروب من الواضح إلى المشكل، وفائدة المجيء بالبدل والمبدل منه، التنصيص على أن صراط هؤلاء هو عَلمَ في الإِستقامة، فلو قيل: إهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، لم تحصل هذه الفائدة، ومثال ذلك إذا أردت المبالغة في وصف أحد بالكرم والفضل فإنك تقول: (هل أدُلك على أكرم الناس وأفضلهم فلان، فإنك بذلك جعلته علما على الكرم والفضل، بحيث إذا ذكر تُصوِّر الكرم والفضل في أعلى مراتبهما، بين يدي السامع وأمام ناظريه، ولو جئت بأسلوب آخر وقلت: هل أدُلك على فلان أكرم الناس وأفضلهم، لم تفد العبارة هذه المبالغة، وكذلك هنا ذُكر أولا الصراط المستقيم ثم فُسر بصراط الذين انعم الله عليهم، ليكون نصّاً في أن هؤلاء المنعم عليهم هم معالم الإستقامة وأعلام الاعتدال والرشد، يُهتدى بهم إلى مرضاة الرب تعالى.

واختلف في المقصود بهم فالجمهور يرون أنهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، أخذا من قوله تعالى:وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً } [النساء: 69] ويعتضد ذلك بذكر الصراط المستقيم في هذا السياق قبل هذه الآية في قوله عز وجل:وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِّن لَّدُنَّـآ أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } [النساء: 66- 68] وهذا هو الذي رواه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروي عنه: أنهم المؤمنون. وأخرج عبد ابن حميد عن الربيع بن أنس أنهم النبيون، وقيل: هم قوم موسى وعيسى قبل النسخ والتبديل، وقيل: هم المسلمون، وقيل: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وروي عن أبي العالية أنهم محمد صلى الله عليه وسلم وصاحباه أبو بكر وعمر رضي الله عنهم، وانتقد الإِمام محمد عبده تفسير المنعَم عليهم بالمسلمين، محتجا بأن الفاتحة أول سورة نزلت، كما روى عن الإِمام على كرم الله وجهه، وكما حققه الإِمام محمد عبده نفسه.

وإن لم تكن أول سورة على الإِطلاق، فلا خلاف في أنها من أوائل السور ولم يكن المسلمون حال نزول السورة بحيث يطلب الإِهتداء بهداهم، لأن هداهم معقود بالوحي، وتلك هي بداية الوحي، ثم انهم هم المأمورون بأن يطلبوا من الله أن يهديهم هذا الصراط، صراط الذين أنعم عليهم من قبلهم فهم قطعا غيرهم، ورجح الإِمام محمد عبده قول الجمهور أنهم هم الذين أنعم الله عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وانتقاد الإِمام موجه إلى الذين يزعمون أن هؤلاء المنعم عليهم هم مسلمو هذه الأمة وهو لا ينافي أن يكون المعنيون - وإن كانوا قبل هذه الأمة - من المسلمين أيضا، لما علمت من أن الإِسلام ليس محصورا في هذه الأمّة، وإنما هو دين جميع النبيين والصالحين، وأوضح الإِمام محمد عبده أن ما جاء من ذكر المنعم عليهم إلى آخره، مجمل لما فصل في سائر القرآن من أخبار الأمم وبيان أحوالها مما يقدر بثلاثة أرباع القرآن تقريباً، والمراد من ذلك توجيه الأنظار إلى الإِعتبار بأحوال الأمم في الكفر والإِيمان، والشقاوة والسعادة إذ لا شيء - يهدي الإِنسان كالمثلات والوقائع، فإذا إمتثل المسلمون الأمر والإِرشاد، ونظروا في أحوال الأمم السالفة، وأسباب علمهم، وجهلهم، ورقيهم، وانحطاطهم، وقوتهم، وضعفهم، وعزهم، وذلهم، وسائر ما يعرض للأمم، كان لهذا النظر أثر إيجابي في نفوس المسلمين، يحملهم على الإِقتداء بالصالحين من قبلهم واتباع أسباب العلم والرقي والقوة والعز، ليتمكنوا في الأرض، واجتناب أسباب الجهل والإِنحطاط والضعف والذل التي تؤدي إلى الشقاوة والهلاك والدمار.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد