الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }

الهداية تطلق على الدلالة، وخصها بعضهم بالدلالة المصحوبة باللطف وأُجيب عما عساه يتجه إلى هذا من سؤال عن قول الله تعالى:فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْجَحِيمِ } [الصافات: 23] الذي تنافي الهداية فيه اللطف المزعوم بأن الآية واردة مورد التهكم على حدفَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [التوبة: 34] وكما قال الشاعر:-
وخيل قد دلفت لها بخيل   تحية بينهم ضرب وجيع
والهداية في القرآن ذات مدلولات متعددة، فلذلك تأتي تارة مسنداً فعلها إلى الله وحده ومنفيا عمن سواه، كما في قوله تعالى في خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم:إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [القصص: 56] وفي قوله:وَمَآ أَنتَ بِهَادِي ٱلْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ } [النمل: 81] وقوله:لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [البقرة: 272] ويُسند فعلها تارة إلى غيره تعالى كإسناده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في قولهوَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الشورى: 52] وإسناده إلى النبيين من قبله كما في قوله عزّ من قائل:وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } [الأنبياء: 73] وإسناده إلى القرآن في قوله سبحانه:إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء: 9] وتأتي تارة محصورة في المؤمنين وحدهم دون الكافرين كما في قوله سبحانه في وصف القرآن:هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2] وقوله:هُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ } [النمل: 2] وقوله:هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ } [لقمان: 3] وقوله سبحانه في وصف المؤمنين:وَهُدُوۤاْ إِلَى ٱلطَّيِّبِ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَهُدُوۤاْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْحَمِيدِ } [الحج: 24] وقوله:وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت: 69] وقوله: { وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } وقوله:وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [محمد: 17] وقوله:وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } [محمد: 4- 5] وقوله:إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } [يونس: 9] وقوله في النبيين:أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } [الأنعام: 90] وتأتي تارة شاملة للمؤمنين والكفار كما في قوله سبحانه:إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [الإنسان: 3] وقوله:وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ } [البلد: 10] بل تأتى تارة نصا في الكفار وحدهم كما في قوله سبحانه:وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } [فصلت: 17] ومن هذا الباب قول الله تعالى:ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } [طه: 50] وقوله:وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } [الأعلى: 3].

وقد استظهر أصحابنا رحمهم الله من هذا أن الهداية تنقسم إلى قِسمين: هداية بيان، وهداية توفيق، فهداية البيان تعم المؤمن والكافر ويُحمل عليها نحو قوله تعالى: { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } ، وأما هداية التوفيق فهي محصورة في المؤمنين، ويُحمل عليها نحو قوله عز وجل: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ } ، وهداية البيان يصح إسناد فعلها إلى غير الله تعالى كما في قوله: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } فإن المراد بهدايته صلى الله عليه وسلم إلى الصراط المستقيم دعاؤه إليه المقرون ببيان معالمه، أما هداية التوفيق فليست من مقدور البشر وإنما هي من مقدور القادر على كل شيء الذي يصرف القلوب كيف يشاء، وإذا نظرنا إلى الآيات التي أوردناها وجدنا أن الهداية أوسع مدلولا وأكثر تشعبا مما ذكره أصحابنا، فمدلولها يشمل هداية الدين وغيرها، ومتعلقها الإِنسان المخاطب بهداية الدين وغيره من المخلوقات، لذلك أميل إلى ما قاله بعض أئمة التفسير في القديم والحديث في تفسير الهداية وتقسيمها إلى أقسام:-

الأول: هداية الوجدان الطبيعي والإِلهام الفطري، وتكون للإِنسان وغيره منذ الولادة، فالمولود يشعر بحاجته إلى الغذاء فيصرخ طالبا له بفطرته، ويُلهم امتصاص الثدي بمجرد وصوله إلى فيه.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7