الرئيسية - التفاسير


* تفسير هميان الزاد إلى دار المعاد / اطفيش (ت 1332 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }

{ ثُمّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ } عطف على محذوف، أى فعقلتم ثم قست قلوبكم، أو فتذكرتم ثم قست قلوبكم، أو لنتم ثم قست قلوبكم أيها اليهود، ومعنى قسوتها امتناعها عن قبول الحق، شبّه عدم تأثير الحق فيها بعدم تأثير الغمز فى الأجسام الصلبة كالحجر والحديد، أو شبه قلوبهم بالأجسام الصلبة، ففى ذلك استعراة بالكناية رمز إليها بقست، أو شبه عدم قبول الحق بقسوة الأجسام الصلبة، فالاستعارة تصريحية تبعية، أو شبه توجيه الحق إلى قلوبهم وامتناعها عن قبولها بتوجيه نحو الغمز إلى الأجسام الصلبة وعدم تأثيره فيها، فهى استعارة تمثيلية تبعية، ولاعتبار الاستعارة بأوجهها حسن التفريع بقوله فهى كالحجارة، ولك أن تعتبر التعقل الصادر منهم أو التذكر أو اللين الصادر منهم كلا تعقل أو تذكر أو لين لعدم كماله ورسوخه، فتكون ثم لغير التراخى فى الزمان بلا لاستبعاد قسوة القلوب بعد تلك الآيات العظام، فإن نور العقل يستبعدها وتكون عنده مستحيلة، فيجوز العطف بثم على المحذوف الآخر، وهو قولنا فحيى أو على يريكم وما ذكرته أولا أولى، ويدل له قول قتادة وغيره المراد قلوب بنى إسرائيل جميعاً فى معاصيهم وما ركبوه بعد ذلك، وكذا يدل له قوله { من بعد ذلك } فإن ذلك يناسب كونها للتراخى فى الزمان على الأصل فيها. { مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } المذكور فى إحياء القتيل أو المذكور من إحياء القتيل وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، ورفع الجبل، وفرق البحر، ونحو ذلك فإن كل واحد من ذلك مما يوجب الأيمان ولين القلب والعمل بالشرع. { فَهِىَ } أى قلوبهم. { كَالْحِجَارَةِ } فى قسوتها. { أَوْ أَشَدُّ } منها فحذفه لدليل كقولك عمروٌ وكريمٌ وزيدٌ أكرم أى منه. { قَسْوَةً } أى أو زائدة على الحجارة فى القسوة، وقسوة تمييز، ويجوز أن يكون المعنى أنها مثل الحجارة أو مثل ما هو أشد من الحجارة وهو الحديد مثلا، ووجه التوصل إلى هذا الوجه أن تجعل الكاف اسماً ظاهراً فى محل رفع لا حرفاً، والحجارة مضاف إليها وأشد بالرفع معطوفاً على الكاف على حذف مضاف، أى أو كأشد فالكاف معطوفة على الكاف، وأشد مضاف إليهِ فلما حذف المضاف وهو الكاف الثانية ناب عنه المضاف إليه وهو أشد فارتفع وهذا على إجارة مجئ الكاف اسماً فى السعة، وإن تجعل أشد معطوفاً على ثابتة المقدر قبل الكاف أو على كالحجارة النائب عنهُ على مقدر مضاف، أى أو مثل أشد منها، ويدل على المعنى الثانى وهو أنها كالحجارة، أو مثل ما هو أشد بوجهى التوصل إليه. قرأه الحسن البصرى والأعمش، أو أشد بفتح الدال جراً عطفاً على الحجارة، فهو بمنزلة قولك كالحجارة أو أشد قسوة، ولا يخفى أن الحديد أقوى من الحجر وأقسى، فإنهُ يكسر الحجر ولا يكسره الحجر إلا بعد اللذيا واللتيا وإلا ما رق منه أو داخلته علة، ولا يخفى أيضاً أن الحجر لا يقبل الغمز والحديد يقبله بشدة، ويقبله بالنار، فجاز أن يقال أو مثل أشد من الحجارة وهو الحديد مثلا من حيث أنهُ يكسر الحجر، وقد يقال أشد منه ليس مراداً به الحديد، لأن الكلام فى عدم الليانة والحديد يلين بالنار، بل المراد بأشد الجسم الصلب الذى لا يلين بها، لكن هذا باعتبار الغالب فى أعمال الناس وإلا فالحجارة أيضاً تلين بالنار، لأنها تذوب بعقاقيرها، ولا يستدل على لين الحديد بلينه لداود ـ عليه السلام ـ بلا نار، لأنهُ أمر خارق للعادة، وإنما لم يقل فهى كالحجارة أو أقسى، مع أن قسا يقسو مستكمل لشروط صوغ اسم التفضيل، لأن بعض أشد أدل على فرط القسوة من لفظ أقسى، ولأنهُ يدل على شدة قسوة قلوبهم على شدة قسوة الحجارة، فإن المفضل والمفضل عليه مشتركان فى أصل ما فيه التفضيل، وذكر بعض أنهُ لم يكمل شروط اسم التفضيل لأنه من الأمور الخلقية والعيوب، وقرئ قيساوة أو على أصلها من الدلالة على النسبة لأحد الشيئين أو الأشياء، فهى للشك باعتبار المخلوق، يعنى أن من عرف حال قلوبهم تردد بين أن يشبهها بالحجارة أو بما هو أشد منها، واختار أبو حيان أنها للتنويع، أى منها ما هو كالحجارة ومنها ما هو أشد، ومن أجاز وقوع أو التخييرية أو الإباحية بعد غير الأمر والنهى أجاز أن تكون هنا للتخيير أى الناس مخيرون بين أن يشبهوا قلوبكم يا بنى إسرائيل بالحجارة أو بما هو أشد أو للإباحة أى أبيح للناس أن يشبهوها بالحجارة أو بما هو أشد لصدق من يشبهها بالحجارة، ولصدق من يشبهها بالحديد، لأن فيها شدة الحجارة وشدة ما هو أقوى منها، ويجوز أن يكون للإضراب كبل، وعليهِ اقتصر الشيخ هود رحمه الله.

السابقالتالي
2 3 4