الرئيسية - التفاسير


* تفسير هميان الزاد إلى دار المعاد / اطفيش (ت 1332 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ }

{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحِى } لما نزلت تشبيه حال المنافقين المستوقدين، وأصحاب الصيب، وتشبيه عبادة الأصنام فى الوهن والضعف ببيت العنكبوت، وجعلها أقل من الذباب وأخس قدراً منه. قالت اليهود والمنافقون من نحا نحوهم من كفار قريش الله أعلى وأجل من أن يضرب الأمثال، ويذكر الذباب والعنكبوت، فنزلت الآية. ومن علم من اليهود أن ضرب المثل بذلك ونحوه حق، وأنه أظهر فى الأفهام، وأن مثله فى التوراة، فإنما قيل ذلك عنادا. روى أن اليهود قالت ما أراد الله بذكر هذه الأشياء الخسيسة؟ وعن الحسن وقتادة لما ذكر الله الذباب والعنكبوت فى كتابه، وضرب للمشركين به المثل، ضحكت اليهود وقالوا ما يشبه هذا كلام الله، فنزلت الآية. وقيل قال المشركون إنا إنا لا نعبد إلهاً يذكر هذه الأشياء. وكل من ذلك يصدق عليه قوله تعالى { ماذا أراد الله بهذا مثلا }؟ لأن هذا استفهام إنكار، أنكروا أن يريد الله تمثيلا بذلك، وليسوا منكرين أن الله موجود، ولا مقرين أن الله نزله، ولكن كنوا بذلك عن تكذيبه - صلى الله عليه وسلم - فى قوله إن ذلك من الله عز وعلا كأنهم قالوا لو كان ما تتلوا علينا من الله، لما كان فيه ذكر تلك الأشياء. وكذلك أنكروا أن يذكر الله النحلة والنملة. والاستحياء استفعال من الحياء، والحياء فى شأن المخلوق انقباض النفس عن القبيح مخافة الذم، وهو بين الوقاحة التى هى الجراءة على القبائح وعدم المبالاة، وبين الخجل الذى هو انحصار النفس عن الفعل مطلقاً، وهو مأخوذ من الحياة، فإن الإنسان إذا كان فيه حياء شبيه بمن ضعفت حياته، لأن الحياء انكسار يعترى القوة الحيوانية، فيردها عن أفعالها، كما قيل نسى أى اعتل عرق النساء فيه، وحشى أى اعتل بطنه. فكذلك يقال حيى، أى ضعفت قوة حياته، والسين والتاء والهمزة، مبالغة وهى راجعة إلى النفى أى انتفا انتفاء بليغاً عن الله أن يوصف بالحياء عن ضرب المثل بنحو البعوضة، والحياء فى حل الله هو ترك الشىء إطلاقاً للملزوم على اللازم، فإنه يلزم من حياء المخلوق من فعل الشىء أن يتركه، وقد استعمل كذلك إطلاقاً على لازمه فى قول المتنبى أبى الطيب من قصيدة بمدح بها أبا الفضل محمد بن الحسين بن العميد يصف نوقا
إذا ما استحين الماء يعرض نفسه كرعن بسبت فى إناء من الورد   
والنون فى استحين للنوق يقال استحيت بياء واستحييت بياءين، وقد قرأ ابن كثير فى رواية شبل يستحى بياء واحدة ساكنة سكوناً ميتاً بعد الحاء المكسورة، والاسم مستح كمهتد بحذف الياء. ومن قال يستحيى بياءين قال فى الاسم مستحى كمهتدى أيضاً بحذف الثانية، والمعنى إذا ما تركن ورد الماء، ويعرض نفسه حال من الماء، وكرعن جواب إذا، والكرع الشرب بالفم من محل الماء، أو يعرض جواب إذا وكرعن، بدل يعرض، أى كرعن فيه، وهو بدل اشتمال، فإن إعراضه نفسه متضمن لأن يكرعن فيه، والسبت جلد البقر المدبوغ بالقرظ، وإناء الورد موضع ماء المطر المحفوف بالأزهار، شبه بإناء الورد، كما شبه مشافر الإبل بالجلد المذكور، فإطلاق لفظ الملزوم على اللازم مجاز مرسل.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد