الرئيسية - التفاسير


* تفسير هميان الزاد إلى دار المعاد / اطفيش (ت 1332 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }

{ ولكُم فى القِصَاصِ حَياةٌ } قيل المراد بالقصاص قتل القاتل والحياة بالحياة العظيمة الهنية، وهى حياة الجنة، فإن القاتل إذا أذعن للقتل تائباً كانت له الجنة، وإن لم يذعن ولم يتب كانت لهُ النار لا يموت فيها ولا يحيا، وقيل المراد بالقصاص قتل القاتل والحياة حياة الدينيا وهى عظيمة أيضا من حيث إن قتا ردع عن القتل، وذلك أنه إذا قتل القاتل ارتدع من يريد القتل عن القتل لئلا يقتل، وقيل المراد بالقصاص شرع القصاص لا نفسه، والحياة دنيوية عظيمة أيضاً من حيث إن الإنسان إذا علم أنه إن قتل أحداً قتل به امتنع من القتل لئلا يقتل فيحيا هو ومن أراد قتله، وأيضا كانوا يقتلون غير القاتل، والجماعة بالواحد متهيج الفتنة، فإذا علم أنه يقتل واحد بواحد وأنه لا يجوز غير ذلك شرعا، وقتل القاتل سلم الباقون من القتل، والمراد بالقصاص القصاص المعهود المذكور فى الآية قبل فى قولهكتب عليكم القصاص فى القتلى } فالمراد الجنس المعهود، وهو قتل النفس شرعاً أو إنجازاً، ويستفاد حكم القصاص فى الجرح والشجة والعضو وإزالة منفعة من حكمه فى قتل النفس، ويجوز ألا يكون المراد المعهود بل الجنس الذى يعم ذلك كله، فإن الجرح قد يفضى إلى الموت وكذا ما بعده، ففى تركه حياة دنيوية، وكذا فى الإذعان للاقتصاص مع التوبة حياة الجنة، والآية على القول الثانى والثالث أفصح منها وأبلغ على القول الأول، وعلى الثالث أبلغ وأفصح منها على الثانى وأوجز، وهى عليهما فى غاية بلاغة وفصاحة ووجازة وإيجازها إيجاز قصر وهو الذى يحصل بلا واسطة حذف، فإنه ولو كان فيها حذف الاستقرار المتعلق به لكم لكن الإنجاز ليس متحصلا به، وأيضا قد وجب حذفه وسد لكم مسده، وأفاد مفاده، وبيان إيجازه أن لفظهُ قليل ومعناه كثير كما مر أن المعنى أنه إذا علم أنه إن قتل أحداً قتل به ارتدع وسلم الناس من قتل بعضهم بعضا. ومن قتل جماعة بواحد، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفنى بكر بن وائل، ولو قال كما تقول العرب القتل أنفى للقتل، لم يفد ما أفاده قوله، ولكن فى القصاص حياة، ولم يكن فى وجازته، لأن مقابل هذا الكلام هو قوله فى القصاص حياة، فإنه لا نظير لقوله تعالى { لكم } فى قولهم القتل أنفى للقتل، فلو عد فى التنظير لكان كعديا أولى الألباب فيهِ، لأنه أتى به لمعنى لم يقصده فى ذلك الكلام ففى قوله عز وجل { فى القصاص حياة } أحد عشر حرفا إن اعتبرنا التنوين وعشرة إن لم نعتبره، وفى قولهم القتل أنفى للقتل أربعة عشر حرفا، وإن ما لم تعتبر ياء فى، وهمزة أل لأنهما لا يلفظ بهما ولو كتبتا، والإنجاز يعتبر فيه اللفظ ولو بمد الصوت كألفى قصاص وحياة، أو بما لم يكتب لا الخط والمطلوب هو الحياة، وهى مذكورة تصريحا فى الآية دون قولهم القتل أنفى للقتل، وفيها الدلالة على نوعية الحياة أو تعظيمها، فإن تنوين حياة وتنكيره للدلالة على أحدهما أى نوع من الحياة، وهو الحياة المتحصلة للذى أريد قتله، والذى أراد القتل لعلمه أنه إن قتل قتل فكيف عنهُ أو حياة عظيمة، وهى حياتهما وحياة الجماعة التى يراد قتلهما بالواحد، ولا دلالة على نوعية الحياة، ولا على تعظيمها فى قولهم القتل أنفى للقتل، وأيضاً قولهُ { فى القصاص حياة } ، مطرد فى كل قتل قصاص، إذ فيهِ التصريح بالقصاص، وقولهم القتل أنفى للقتل غير مطرد بالنظر للفظه لعدم التصريح فيه بالقصاص، فإنهُ يشمل القتل ظلما وهو أدعى للقتل لا أنفى له، وأيضا قوله { فى القصاص حياة } لا تكرار فيه بخلاف قولهم القتل أنفى للقتل، فإن فيه ذكر القتل مرتين، وما يخلو من التكرار أفضل مما فيه التكرار، ولو لم يكن كل تكرار مخلاً بالفصاحة، وفيه رد العجز على الصدر إذ كرر لفظ القتل بمعنيين، لأن أحد القتلين غير الآخر، ورد العجز على الصدر فيه حسن لكن لا من جهة التكرار إذا كان فيه تكرار، بل من حيث إنهُ رد العجز على الصدر، وهذا لا ينافى رجحان الخالى عن التكرار، وأيضا قوله { فى القصاص حياة } ، مستغنى عن تقدير محذوف يحتاج إليه الكلام، فإن لكم تائب عن الاستقرار ومفيد مفاده كما مر، وقولهم القتل أنفى للقتل، محتاج إلى تقدير، أى آنفى للقتل من تركه، وفى قوله { فى القصاص حياة } المطابقة وهى من المحسنات البديعية وهى الجمع بين متضادين، فإن القصاص قتل وهو يتضمن موتا، والموت ضد الحياة وليس ذلك فى قولهم القتل أنفى للقتل وفى قوله جل وعلا { فى القصاص حياة } غرابة مستحسنة معنوية لا مردودة، لفظية إذ جعل الشئ محل ضده، لأن القصاص بالقتل تفويت للحاة، وقد جعل ظرفا للحياة وأيضا قوله { فى القصاص حياة } سببان خفيفان فقط غير متواليين أحدهما الفاء واللام، والآخر التاء والتنوين، وقولهم القتل أنفى للقتل توالى أوله إثنان وفى آخره أربعة من همزة أنفى إلى تاء القتل الآخر، وتوالى الأسباب الخفيفة يقتضى ثقل الكلام، وهب أن حسبنا صاد قصاص مع ألفه الذى بعده سببا وحسبنا ألف حياة أيضا مع يائه، لكن لم تتوال ثلاثة بل اثنان ومن الفاء إلى التاء ثلاثة توالت، بل إذا نظرت وجدت اجتماع حرفين متحركين فى قوله { قصاص } قوله ص ح بل ثلاثا بالتاء، وليس فى قولهم جمعهما إلا فى موضع واحد، وهما لام القتل وهمزة أنفى بعده، وفى الآية تقديم الظرف للاختصاص والمبالغة، وليس ذلك فى قولهم ولا يقال إن التقديم لتسويغ الابتداء بالنكرة لا للتخصيص، لأنا نقول تنوين حياة للتنويع أو للتعظيم، وذلك وصف سوغ ابتداؤه وأيضا لكم قد تقدم وهو خبر ظرفى، فهو كاف فى التسويغ ولا سيما جعلنا فى القصاص حالا من ضمير الاستقرار فى لكم أو متعلق بلكم لسده مسد ما يصح التعليق به، ولم نجعله خبراً ثانيا، وإن جعلناه خبراً ثانيا صح ولا خلل.

السابقالتالي
2