الرئيسية - التفاسير


* تفسير الميزان في تفسير القرآن/ الطبطبائي (ت 1401 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً } * { إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً } * { وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً } * { إِلاَّ ٱلْمُصَلِّينَ } * { ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ } * { وَٱلَّذِينَ فِيۤ أَمْوَٰلِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ } * { لِّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } * { وَٱلَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ } * { وَٱلَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ } * { إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } * { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } * { إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } * { فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ } * { وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } * { وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ } * { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } * { أُوْلَـٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ }

بيان تشير الآيات إلى السبب الأولي الذي يدعو الإِنسان إلى رذيلة الإِدبار والتولي والجمع والإِيعاء التي تؤديه إلى دخول النار الخالدة التي هي لظى نزَّاعة للشوى على ما تذكره الآيات. وذلك السبب صفة الهلع التي اقتضت الحكمة الإِلهية أن يخلق الانسان عليها ليهتدي بها إلى ما فيه خيره وسعادته غير أن الإِنسان يفسدها على نفسه ويسيء استعمالها في سبيل سعادته فتسلك به إلى هلكة دائمة إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في جنات مكرمون. قوله تعالى { إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً } الهلوع صفة مشتقة من الهلع بفتحتين وهو شدة الحرص، وذكروا أيضاً أن الهلوع تفسره الآيتان بعده فهو الجزوع عند الشر والمنوع عند الخير وهو تفسير سديد والسياق يناسبه. وذلك أن الحرص الشديد الذي جبل عليه الانسان ليس حرصاً منه على كل شيء خيراً كان أو شراً أو نافعاً أو ضاراً بل حرصاً على الخير والنافع ولا حرصاً على كل خير أو نافع سواء ارتبط به أو لم يرتبط وكان له أو لغيره بل حرصاً منه على ما يراه خيراً لنفسه أو نافعاً في سبيل الخير، ولازم هذا الحرص أن يظهر منه التزعزع والاضطراب عند مس الشر وهو خلاف الخير وأن يمتنع عن ترك الخير عند مسه ويؤثر نفسه على غيره إلا أن يرى الترك أكثر خيراً وأنفع بحاله فالجزع عند مس الشر والمنع عند مس الخير من لوازم الهلع وشدة الحرص. وليس الهلع وشدة الحرص المجبول عليه الإِنسان - وهو من فروع حب الذات - في حد نفسه من الرذائل المذمومة كيف؟ وهي الوسيلة الوحيدة التي تدعو الانسان إلى بلوغ سعادته وكمال وجوده، وإنما تكون رذيلة مذمومة إذا أساء الإِنسان في تدبيرها فاستعملها فيما ينبغي وفيما لا ينبغي وبالحق وبغير حق كسائر الصفات النفسانية التي هي كريمة ما لزمت حد الاعتدال وإذا انحرفت إلى جانب الافراط أو التفريط عادت رذيلة ذميمة. فالإِنسان في بدء نشأته وهو طفل يرى ما يراه خيراً لنفسه أو شراً لنفسه بما جهز به من الغرائز العاطفة وهي التي تهواه نفسه وتشتهيه قواه من غير أن يحده بحد أو يقدره بقدر فيجزع إذا مسه ألم أو أي مكروه، ويمنع من يزاحمه فيما أمسك به بكل ما يقدر عليه من بكاء ونحوه. وهو على هذه الحال حتى إذا رزق العقل والرشد أدرك الحق والباطل والخير والشر واعترفت نفسه بما أدرك وحينئذ يتبدل عنده كثير من مصاديق الحق والباطل والخير والشر فعاد كثير مما كان يراه خيراً لنفسه شراً عنده وبالعكس. فإن أقام على ما كان عليه من اتباع أهواء النفس والعكوف على المشتهيات واشتغل بها عن اتباع الحق وغفل عنه، طبع على قلبه فلم يواجه حقاً إلا دحضه ولا ذا حق إلا اضطهده وإن أدركته العناية الإِلهية عاد ما كان عنده من الحرص على ما تهواه النفس حرصاً على الحق فلم يستكبر على حق واجهه ولا منع ذا حق حقه.

السابقالتالي
2 3 4 5