الرئيسية - التفاسير


* تفسير الميزان في تفسير القرآن/ الطبطبائي (ت 1401 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ } * { أَوْ تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ } * { وَكَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }

بيان الآيات تذكر الميثاق من بني آدم على الربوبية وهي من أدق الآيات القرآنية معنى، وأعجبها نظماً. قوله تعالى { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى شهدنا } أخذ الشيء من الشيء يوجب انفصال المأخوذ من المأخوذ منه واستقلاله دونه بنحو من الأنحاء، وهو يختلف باختلاف العنايات المتعلقه بها والاعتبارات المأخوذة فيها كأخذ اللقمة من الطعام وأخذ الجرعة من ماء القدح وهو نوع من الأخذ، وأخذ المال والأثاث من زيد الغاصب أو الجواد أو البائع أو المعير وهو نوع آخر، أو أنواع مختلفة أخرى، وكأخذ العلم من العالم وأخذ الأهبة من المجلس وأخذ الحظ من لقاء الصديق وهو نوع وأخذ الولد من والده للتربية وهو نوع إلى غير ذلك. فمجرد ذكر الأخذ من الشيء لا يوضح نوعه إلا ببيان زائد، ولذلك أضاف الله سبحانه إلى قوله { وإذ أخذ ربك من بني آدم } الدال على تفريقهم وتفصيل بعضهم من بعض، قوله { من ظهورهم } ليدل على نوع الفصل والأخذ، وهو أخذ بعض المادة منها بحيث لا تنقص المادة المأخوذ منها بحسب صورتها ولا تنقلب عن تمامها واستقلالها ثم تكميل الجزء المأخوذ شيئاً تاماً مستقلاً من نوع المأخوذ منه فيؤخذ الولد من ظهر من يلده ويولده، وقد كان جزءً ثم يجعل بعد الأخذ والفصل إنساناً تاماً مستقلاً من والديه بعد ما كان جزءً منهما. ثم يؤخذ من ظهر هذا المأخوذ مأخوذ آخر وعلى هذه الوتيرة حتى يتم الأخذ وينفصل كل جزء عما كان جزءاً منه، ويتفرق الأناسي وينتشر الأفراد وقد استقل كل منهم عمن سواه ويكون لكل واحد منهم نفس مستقله لها ما لها وعليها ما عليها، فهذا مفاد قوله { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } ولو قال أخذ ربك من بني آدم ذريتهم أو نشرهم ونحو ذلك بقي المعنى على إبهامه. وقوله { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم } ينبيء عن فعل آخر إلهي تعلق بهم بعد ما أخذ بعضهم من بعض وفصل بين كل واحد منهم وغيره وهو إشهادهم على أنفسهم، والإِشهاد على الشيء هو إحضار الشاهد عنده وإراءته حقيقته ليتحمله علماً تحملاً شهودياً فإشهادهم على أنفسهم هو إراءتهم حقيقة أنفسهم ليتحملوا ما أُريد تحملهم من أمرها ثم يؤدوا ما تحملوه إذا سئلوا. وللنفس في كل ذي نفس جهات من التعلق والارتباط بغيرها يمكن أن يستشهد الإِنسان على بعضها دون بعض غير أن قوله { ألست بربكم } يوضح ما أشهدوا لاجله واريد شهادتهم عليه، وهو أن يشهدوا ربوبيته سبحانه لهم فيؤدوها عند المسألة. فالإِنسان وإن بلغ من الكبر والخيلاء ما بلغ، وغرته مساعدة الأسباب ما غرته واستهوته لا يسعه أن ينكر أنه لا يملك وجود نفسه ولا يستقل بتدبير أمره، ولو ملك نفسه لوقاها مما يكرهه من الموت وسائر آلام الحياة ومصائبها، ولو استقل بتدبير أمره لم يفتقر إلى الخضوع قبال الأسباب الكونية، والوسائل التي يرى لنفسه أنه يسودها ويحكم فيها ثم هي كالإِنسان في الحاجة إلى ما وراءها، والانقياد إلى حاكم غائب عنها يحكم فيها لها أو عليها، وليس إلى الإِنسان أن يسد خلتها ويرفع حاجتها.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد