الرئيسية - التفاسير


* تفسير الميزان في تفسير القرآن/ الطبطبائي (ت 1401 هـ) مصنف و مدقق


{ يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ }

بيان معنى الآية في نفسها ظاهر فإنها تتضمن أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ في صورة التهديد، ووعده صلى الله عليه وآله وسلم بالعصمة من الناس، غير أن التدبر في الآية من حيث وقوعها موقعها الذي وقعت فيه، وقد حففتها الآيات المتعرضة لحال أهل الكتاب وذمهم وتوبيخهم بما كانوا يتعاورونه من أقسام التعدي إلى محارم الله والكفر بآياته. وقد اتصلت بها من جانبيها الآيتان، أعني قوله { ولو أنهم أقاموا التوراة والإِنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم } الآية، وقوله تعالى { قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإِنجيل وما أنزل إليكم من ربكم } الآية. ثم الإِمعان في التدبر في نفس الآية وارتباط الجمل المنضودة فيها يزيد الإِنسان عجباً على عجب. فلو كانت الآية متصلة بما قبلها وما بعدها في سياق واحد في أمر أهل الكتاب لكان محصلها أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشد الأمر بتبليغ ما أنزله الله سبحانه في أمر أهل الكتاب، وتعين بحسب السياق أن المراد بما أنزل إليه من ربه هو ما يأمره بتبليغه في قوله { قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإِنجيل وما أنزل إليكم من ربكم } الآية. وسياق الآية يأباه فإن قوله { والله يعصمك من الناس } يدل على أن هذا الحكم المنزل المأمور بتبليغه أمر مهم فيه مخافة الخطر على نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو على دين الله تعالى من حيث نجاح تبليغه، ولم يكن من شأن اليهود ولا النصارى في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتوجه إليه من ناحيتهم خطر يسوّغ له صلى الله عليه وآله وسلم أن يمسك عن التبليغ أو يؤخره إلى حين فيبلغ الأمر إلى حيث يحتاج إلى أن يعده الله بالعصمة منهم إن بلَّغ ما أمر به فيهم حتى في أوائل هجرته صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وعنده حدة اليهود وشدتهم حتى انتهى إلى وقائع خيبر وغيرها. على أن الآية لا تتضمن أمراً شديداً ولا قولاً حاداً، وقد تقدم عليه تبليغ ما هو أشدّ وأحدّ وأمرّ من ذلك على اليهود، وقد أُمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ ما هو أشد من ذلك كتبليغ التوحيد ونفي الوثنية إلى كفار قريش ومشركي العرب وهم أغلظ جانباً وأشد بطشاً وأسفك للدماء، وأفتك من اليهود وسائر أهل الكتاب، ولم يهدده الله في أمر تبليغهم ولا آمنه بالعصمة منهم. على أن الآيات المتعرضة لحال أهل الكتاب معظم أجزاء سورة المائدة فهي نازلة فيها قطعاً، واليهود كانت عند نزول هذه السورة قد كسرت سورتهم، وخمدت نيرانهم، وشملتهم السخطة واللعنة كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله فلا معنى لخوف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم في دين الله، وقد دخلوا يومئذٍ في السلم في حظيرة الإِسلام وقبلوا هم والنصارى الجزية، ولا معنى لتقريره تعالى له خوفه منهم واضطرابه في تبليغ أمر الله إليهم، وهو أمر قد بلَّغ إليهم ما هو أعظم منه، وقد وقف قبل هذا الموقف فيما هو أهول منه وأوحش.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد