الرئيسية - التفاسير


* تفسير الميزان في تفسير القرآن/ الطبطبائي (ت 1401 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } * { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } * { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } * { قَالَ ٱللَّهُ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } * { للَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

بيان مشافهة الله رسوله عيسى ابن مريم في أمر ما قالته النصارى في حقه، وكأن الغرض من سرد الآيات ذكر ما اعترف به عليه السلام وحكاه عن نفسه في حياته الدنيا أنه لم يكن من حقه أن يدعي لنفسه ما ليس فقد كان بعين الله التي لا تنام ولا تزيغ، وأنه لم يتعد ما حده الله سبحانه له فلم يقل إلا ما أُمر أن يقول ذلك، واشتغل بالعمل بما كلفه الله أن يشتغل به وهو أمر الشهادة، وقد صدّقه الله تعالى فيما ذكره من حق الربوبية والعبودية. وبهذا تنطبق الآيات على الغرض النازل لأجله السورة، وهو بيان الحق المجعول لله على عباده أن يفوا بالعهد الذي عقدوه وأن لا ينقضوا الميثاق فليس لهم أن يسترسلوا كيفما أرادوا وأن يرتعوا رغداً حيث شاؤا فلم يملكوا هذا النوع من الحق من قبل ربهم، ولا أنهم قادرون على ذلك من حيال أنفسهم، ولله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير، وبذلك تختتم السورة. قوله تعالى { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأُمي إلهين من دون الله } { إذ } ظرف متعلق بمحذوف يدل عليه المقام، والمراد به يوم القيامة لقوله تعالى فيها { قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } وقول عيسى عليه السلام فيها { وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم }. وقد عبرت الآية عن مريم بالامومة فقيل { اتخذوني وأُمي إلهين } دون أن يُقال { اتخذوني ومريم إلهين } للدلالة على عمدة حجتهم في الألوهية وهو ولادته منها بغير أب، فالبنوة والأُمومة الكذائيتين هما الأصل في ذلك فالتعبير به وبأُمه أدل وأبلغ من التعبير بعيسى ومريم. و { دون } كلمة تستعمل بحسب المآل في معنى الغير، قال الراغب يُقال للقاصر عن الشيء " دون " قال بعضهم هو مقلوب من الدنو، والأدون الدني، وقوله تعالى { لا تتخذوا بطانة من دونكم } أي من لم يبلغ منزلتكم في الديانة، وقيل في القرابة، وقوله { ويغفر ما دون ذلك } أي ما كان أقل من ذلك، وقيل ما سوى ذلك، والمعنيان متلازمان، وقوله { ءأنت قلت للناس اتخذوني وأُمي إلهين من دون الله } أي غير الله، انتهى. وقد استعمل لفظ { من دون الله } كثيراً في القرآن في معنى الإِشراك دون الاستقلال بمعنى أن المراد من اتخاذ إله أو إلهين أو آلهة من دون الله هو أن يتخذ غير الله شريكاً لله سبحانه في الوهيته لا أن يتخذ غير الله إلهاً وتنفي الوهية الله سبحانه فإن ذلك من لغو القول الذي لا يرجع إلى محصل فإن الذي أثبته حينئذ يكون هو الإِله سبحانه وينفي غيره، ويعود النزاع إلى بعض الأوصاف التي أثبتها فمثلاً لو قال قائل إن الإِله هو المسيح ونفى إله المسيح عاد مفاد كلامه إلى إثبات الإِله تعالى وتوصيفه بصفات المسيح البشرية، ولو قال قائل إن الأصنام أو أرباب الأصنام آلهة ونفى الله تعالى وتقدس فإنه يقول بأن للعالم إلهاً فقد أثبت الله سبحانه لكنه نعته بنعت الكثرة والتعدد فقد جعل لله شركاء، أو يقول كما يقوله النصارى إن الله ثالث ثلاثة أي واحد هو ثلاث وثلاث هو واحد.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد