الرئيسية - التفاسير


* تفسير الميزان في تفسير القرآن/ الطبطبائي (ت 1401 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }

بيان الآية تأمر المؤمنين أن يلزموا أنفسهم، ويلازموا سبيل هدايتهم ولا يوحشهم ضلال من ضل من الناس فإن الله سبحانه هو المرجع الحاكم على الجميع حسب أعمالهم، والكلام مع ذلك لا يخلو عن غور عميق. قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } لفظة " عليكم " اسم فعل بمعنى ألزموا، و " أنفسكم " مفعوله. ومن المعلوم أن الضلال والاهتداء - وهما معنيان متقابلان - إنما يتحققان في سلوك الطريق لا غير فالملازم لمتن الطريق ينتهي إلى ما ينتهي إليه الطريق، وهو الغاية المطلوبة التي يقصدها الإِنسان السالك في سلوكه، أما إذا استهان بذلك وخرج عن مستوى الطريق فهو الضلال الذي تفوت به الغاية المقصودة فالآية تقدر للإِنسان طريقاً يسلكه ومقصداً يقصده غير أنه ربما لزم الطريق فاهتدى إليه أو فسق عنه فضلّ وليس هناك مقصد يقصده القاصد إلا الحياة السعيدة، والعاقبة الحسنى بلا ريب لكنها مع ذلك تنطق بأن الله سبحانه هو المرجع الذي يرجع إليه الجميع المهتدي والضال. فالثواب الذي يريده الإِنسان في مسيره بالفطرة إنما هو عند الله سبحانه يناله المهتدون، ويحرم عنه الضلال، ولازم ذلك أن يكون جميع الطرق المسلوكة لأهل الهداية والطرق المسلوكة لأهل الضلال تنتهي إلى الله سبحانه، وعنده سبحانه الغاية المقصودة وإن كانت تلك الطرق مختلفة في إيصال الإِنسان إلى البغية والفوز والفلاح أو ضربه بالخيبة والخسران، وكذلك في القرب والبعد كما قال تعالىيا أيها الإِنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه } الإنشقاق 6، وقال تعالىألا إن حزب الله هم المفلحون } المجادلة 22، وقال تعالىألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار } إبراهيم 28، وقال تعالىفإني قريب أُجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } البقرة 186، وقال تعالىوالذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد } فصلت 44. بين تعالى في هذه الآيات أن الجميع سائرون إليه سبحانه سيراً لا مناص لهم عنه، غير أن طريق بعضهم قصير وفيه الرشد والفلاح، وطريق آخرين طويل لا ينتهي إلى سعادة، ولا يعود إلى سالكه إلا الهلاك والبوار. وبالجملة فالآية تقدر للمؤمنين وغيرهم طريقين اثنين ينتهيان إلى الله سبحانه، وتأمر المؤمنين بأن يشتغلوا بأنفسهم وينصرفوا عن غيرهم وهم أهل الضلال من الناس ولا يقعوا فيهم ولا يخافوا ضلالهم فإنما حسابهم على ربهم لا على المؤمنين وليسوا بمسؤولين عنهم حتى يهمهم أمرهم فالآية قريبة المضمون من قوله تعالىقل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون }

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد