الرئيسية - التفاسير


* تفسير الميزان في تفسير القرآن/ الطبطبائي (ت 1401 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } * { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ فَمَالِ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } * { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } * { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً }

بيان الآيات متصلة بما قبلها، وهي جميعاً ذات سياق واحد، وهذه الآيات تشتمل على الاستشهاد بأمر طائفة أُخرى من المؤمنين ضعفاء الإيمان وفيها عظة وتذكير بفناء الدنيا، وبقاء نعم الآخرة، وبيان لحقيقة قرآنية في خصوص الحسنات والسيئات. قوله تعالى { ألم تر إلى الذين قيل لهم } إلى قوله { أو أشدَّ خشية } كفّ الأيدي كناية عن الإمساك عن القتال لكون القتل الذي يقع فيه من عمل الأيدي، وهذا الكلام يدل على أن المؤمنين كانوا في ابتداء أمرهم يشقّ عليهم ما يشاهدونه من تعدّي الكفّار وبغيهم عليهم، فيصعب عليهم أن يصبروا على ذلك ولا يقابلوه بسلّ السيوف، فأمرهم الله بالكفّ عن ذلك، وإقامة شعائر الدين من صلاة وزكاة ليشتد عظم الدين ويقوم صلبه فيأذن الله لهم في جهاد أعدائه، ولولا ذلك لانفسخ هيكل الدين، وانهدمت أركانه وتلاشت أجزاؤه. ففي الآيات لومهم على أنهم هم الذين كانوا يستعجلون في قتال الكفار، ولا يصبرون على الإمساك وتحمل الأذى حين لم يكن لهم من العدّة والقوة ما يكفيهم للقاء عدوّهم، فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون العدو وهم ناس مثلهم كخشية الله أو أشد خشية. قوله تعالى { وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال } ، ظاهره أنه عطف على قوله { إذا فريق منهم } ، وخاصة بالنظر إلى تغيير السياق من الفعل المضارع { يخشون الناس } إلى الماضي { قالوا } فالقائل بهذا القول هم الذين كانوا يتوقون للقتال، ويستصعبون الصبر فأمروا بكف أيديهم. ومن الجائز أن يكون قولهم { ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب } محكياً عن لسان حالهم كما أن من الجائز أن يكونوا قائلين ذلك بلسانهم الظاهر فان القرآن يستعمل من هذه العنايات كل نوع. وتوصيف الأجل الذي هو أجل الموت حتف الأنف بالقريب ليس المراد به أن يسألوا التخلص عن القتل، والعيش زماناً يسييراً بل ذلك تلويح منهم بأنهم لو عاشوا من غير قتل حتى يموتوا حتف أنفهم لم يكن ذلك إلا عيشاً يسيراً وأجلاً قريباً فما لله سبحانه لا يرضى لهم أن يعيشوا هذه العيشة اليسيرة حتى يبتليهم بالقتل، ويعجل لهم الموت؟ وهذا الكلام صادر منهم لتعلق نفوسهم بهذه الحياة الدنيا التي هي في تعليم القرآن متاع قليل يتمتع به ثم ينقضي سريعاً ويعفى أثره، ودونه الحياة الآخرة التي هي الحياة الباقية الحقيقية فهي خير، ولذلك أجيب عنهم بقوله " قل " الخ. قوله تعالى { قل متاع الدنيا قليل } الخ أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيب هؤلاء الضعفاء بما يوضح لهم خطأ رأيهم في ترجيح العيش الدنيوي اليسير على كرامة الجهاد والقتل في سبيل الله تعالى، ومحصله أنهم ينبغي أن يكونوا متقين في إيمانهم، والحياة الدنيا هي متاع يتمتع به قليل إذا قيس إلى الآخرة، والآخرة خير لمن اتقى فينبغي لهم أن يختاروا الآخرة التي هي خير على متاع الدنيا القليل لأنهم مؤمنون وعلى صراط التقوى، ولا يبقى لهم إلا أن يخافوا أن يحيف الله عليهم ويظلمهم فيختاروا لذلك ما بأيديهم من المتاع على ما يوعدون من الخير، وليس لهم ذلك فإن الله لا يظلمهم فتيلاً.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10