الرئيسية - التفاسير


* تفسير الميزان في تفسير القرآن/ الطبطبائي (ت 1401 هـ) مصنف و مدقق


{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَٰطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } * { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً }

بيان في الآية شبه اتصال بما سبقتها حيث إنها تتضمن النهي عن أكل المال بالباطل وكانت الآيات السابقة متضمنة للنهي عن أكل مهور النساء بالعضل والتعدي ففي الآية انتقال من الخصوص إلى العموم. قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم } إلى قوله { منكم } الأكل معروف وهو إنفاد ما يمكن أن يتغذى به بالتقامه وبلعه مثلاً ولما فيه من معنى التسلط والإِنفاد يقال أكلت النار الحطب شبه فيه إعدام النار الحطب بإحراقه بإنفاد الأكل الغذاء بالتناول والبلع ويقال أيضاً أكل فلان المال أي تصرف فيه بالتسلط عليه وذلك بعناية أن العمدة في تصرف الإِنسان في الأشياء هو التغذي بها لأنه أشد ما يحتاج إليه الانسان في بقائه وأمسّه منه ولذلك سمي التصرف أكلاً لكن لا كل تصرف بل التصرف عن تسلط يقطع تسلط الغير على المال بالتملك ونحوه كأنه ينفده ببسط سلطته عليه والتصرف فيه كما ينفد الآكل الغذاء بالأكل. والباطل من الأفعال ما لا يشتمل على غرض صحيح عقلائي والتجارة هي التصرف في رأس المال طلباً للربح على ما ذكره الراغب في مفرداته قال وليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذا اللفظ انتهى فتنطبق على المعاملة بالبيع والشرى. وفي تقييد قوله { لا تأكلوا أموالكم } بقوله { بينكم } الدال على نوع تجمع منهم على المال ووقوعه في وسطهم إشعارا أو دلالة بكون الأكل المنهي عنه بنحو إدارته فيما بينهم ونقله من واحد إلى آخر بالتعاور والتداول فتفيد الجملة أعني قوله { لا تأكلوا أموالكم بينكم } بعد تقييدها بقوله { بالباطل } النهي عن المعاملات الناقلة التي لا تسوق المجتمع إلى سعادته ونجاحه بل تضرها وتجرها إلى الفساد والهلاك وهي المعاملات الباطلة في نظر الدين كالربا والقمار والبيوع الغررية كالبيع بالحصاة والنواة وما أشبه ذلك. وعلى هذا فالاستثناء الواقع في قوله { إلاَّ أن تكون تجارة عن تراض منكم } استثناء منقطع جيء به لدفع الدخل فإنه لما نهي عن أكل المال بالباطل - ونوع المعاملات الدائرة في المجتمع الفاسد التي يتحقق بها النقل والانتقال المالي كالربويات والغرريات والقمار وأضرابها باطلة بنظر الشرع - كان من الجائز أن يتوهم أن ذلك يوجب انهدام أركان المجتمع وتلاشي أجزائها وفيه هلاك الناس فأُجيب عن ذلك بذكر نوع معاملة في وسعها أن تنظم شتات المجتمع وتقيم صلبه وتحفظه على استقامته وهي التجارة عن تراض ومعاملة صحيحة رافعة لحاجة المجتمع وذلك نظير قوله تعالىيوم لا ينفع مال ولا بنون إلاَّ من أتى الله بقلب سليم } الشعراء 88 - 89، فإنه لما نفى النفع عن المال والبنين يوم القيامة أمكن أن يتوهم أن لا نجاح يومئذٍ ولا فلاح فإن معظم ما ينتفع به الإِنسان إنما هو المال والبنون فإذا سقطا عن التأثير لم يبق إلاَّ اليأس والخيبة فأُجيب أن هناك أمراً آخر نافعاً كل النفع وإن لم يكن من جنس المال والبنين وهو القلب السليم.

السابقالتالي
2 3 4 5