الرئيسية - التفاسير


* تفسير الميزان في تفسير القرآن/ الطبطبائي (ت 1401 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـٰئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } * { وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ ٱلآنَ وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }

بيان مضمون الآيتين لا يخلو عن ارتباط بما تقدمهما من الآيتين فإنهما قد اختتمتا بذكر التوبة فمن الممكن أن يكون هاتان نزلتا مع تينك وهاتان الآيتان مع ذلك متضمنتان لمعنى مستقل في نفسه وهو إحدى الحقائق العالية الإسلامية والتعاليم الراقية القرآنية وهي حقيقة التوبة وشأنها وحكمها. قوله تعالى { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب } التوبة هي الرجوع وهي رجوع من العبد إلى الله سبحانه بالندامة والانصراف عن الإعراض عن العبودية ورجوع من الله إلى العبد رحمة بتوفيقه للرجوع إلى ربه أو بغفران ذنبه وقد مر مراراً أن توبة واحدة من العبد محفوفة بتوبتين من الله سبحانه على ما يفيده القرآن الكريم. وذلك أن التوبة من العبد حسنة تحتاج إلى قوة والحسنات من الله والقوة لله جميعاً فمن الله توفيق الأسباب حتى يتمكن العبد من التوبة ويتمشى له الانصراف عن التوغل في غمرات البعد والرجوع إلى ربه ثم إذا وفق للتوبة والرجوع احتاج في التطهر من هذه الألواث وزوال هذه القذارات والورود والاستقرار في ساحة القرب إلى رجوع آخر من ربه إليه بالرحمة والحنان والعفو والمغفرة. وهذان الرجوعان من الله سبحانه هما التوبتان الحافتان لتوبة العبد ورجوعه قال تعالىثم تاب عليهم ليتوبوا } التوبة 118 وهذه هي التوبة الأولى وقال تعالىفأولئك أتوب عليهم } البقرة 160 وهذه هي التوبة الثانية وبين التوبتين منه تعالى توبة العبد كما سمعت. وأما قوله { على الله للذين } لفظة على واللام تفيدان معنى النفع والضرر كما في قولنا دارت الدائرة لزيد على عمرو وكان السباق لفلان على فلان ووجه إفادة " على واللام " معنى الضرر والنفع أن " على " تفيد معنى الاستعلاء واللام معنى الملك والاستحقاق ولازم ذلك أن المعاني المتعلقة بطرفين ينتفع بها أحدهما ويتضرر بها الآخر كالحرب والقتال والنزاع ونحوها فيكون أحدهما الغالب والآخر المغلوب ينطبق على الغالب منهما معنى الملك وعلى المغلوب معنى الاستعلاء وكذا ما أشبه ذلك كمعنى التأثير بين المتأثر والمؤثر ومعنى العهد والوعد بين المتعهد والمتعهد له والواعد والموعود له وهكذا فظهر أن كون " على واللام " لمعنى الضرر والنفع إنما هو أمر طار من ناحية مورد الاستعمال لا من ناحية معنى اللفظ. ولما كان نجاح التوبة إنما هو لوعد وعده الله عباده فأوجبها بحسبه على نفسه لهم قال ها هنا { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة } فيجب عليه تعالى قبول التوبة لعباده لكن لا على أن لغيره أن يوجب عليه شيئاً أو يكلفه بتكليف سواء سمي ذلك الغير بالعقل أو نفس الأمر أو الواقع أو الحق أو شيئاً آخر تعالى عن ذلك وتقدس بل على أنه تعالى وعد عباده أن يقبل توبة التائب منهم وهو لا يخلف الميعاد فهذا معنى وجوب قبول التوبة على الله فيما يجب وهو أيضاً معنى وجوب كل ما يجب على الله من الفعل.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد