الرئيسية - التفاسير


* تفسير الميزان في تفسير القرآن/ الطبطبائي (ت 1401 هـ) مصنف و مدقق


{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ ٱللَّهُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَـٰكِن كُونُواْ رَبَّـٰنِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ ٱلْكِتَٰبَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } * { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِٱلْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ }

بيان وقوع الآيات عقيب الآيات المرتبطة بأمر عيسى عليه السلام يفيد أنها بمنزلة الفصل الثاني من الاحتجاج على براءة ساحة المسيح مما يعتقده في حقه أهل الكتاب من النصارى، والكلام بمنزلة قولنا إنه ليس كما تزعمون، فلا هو رب ولا أنه ادعى لنفسه الربوبية أما الأول فلأنه مخلوق بشري حملته أُمه ووضعته وربته في المهد غير أنه لا أب له كآدم عليهما السلام فمثله عند الله كمثل آدم، وأما الثاني فلأنه كان نبياً أُوتي الكتاب والحكم والنبوة والنبي الذي هذا شأنه لا يعدو طور العبودية ولا يتعرى عن زي الرقية، فكيف يتأتى أن يقول للناس اتخذوني رباً وكونوا عباداً لي من دون الله، أو يجوز ذلك في حق غيره من عباد الله من ملك أو نبي، فيعطي لعبد من عباد الله ما ليس له بحق، أو ينفي عن نبي من الأنبياء ما أثبت الله في حقه من الرسالة فيأخذ منه ما هو له من الحق. قوله تعالى { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله } ، البشر مرادف للإِنسان، ويطلق على الواحد والكثير فالإِنسان الواحد بشر كما أن الجماعة منه بشر. وقوله { ما كان لبشر } ، اللام للملك أي لا يملك ذلك أي ليس له بحق كقوله تعالىما يكون لنا أن نتكلم بهذا } النور 16 وقولهوما كان لنبي أن يغل } آل عمران 161. وقوله تعالى { أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة } ، اسم كان إلاَّ أنه توطئة لما يتبعه من قوله { ثم يقول للناس } ، وذكر هذه التوطئة مع صحة المعنى بدونها ظاهراً يفيد وجهاً آخر لمعنى قوله { ما كان لبشر } ، فإنه لو قيل ما كان لبشر أن يقول للناس، كان معناه أنه لم يشرع له هذا الحق وإن أمكن أن يقول ذلك فسقاً وعتواً، ولكنه إذا قيل { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول } كان معناه أن إيتاء الله له العلم والفقه بما عنده وتربيته له بتربية ربانية لا يدعه أن يعدو طور العبودية، ولا يوسع له أن يتصرف فيما لا يملكه، ولا يحق له كما يحكيه تعالى عن عيسى عليه السلام في قولهوإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأُمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } المائدة 116. ومن هنا تظهر النكتة في قوله { أن يؤتيه الله } " الخ " دون أن يقال ما كان لبشر آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يقول " الخ " فإن العبارة الثانية تفيد معنى أصل التشريع كما تقدم بخلاف قوله { أن يؤتيه الله } " الخ " فإنه يفيد أن ذلك غير ممكن البتة، أي أن التربية الربانية والهداية الإِلهية لا تتخلف عن مقصدها كما قال تعالى { أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء } يعني قوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد