الرئيسية - التفاسير


* تفسير الميزان في تفسير القرآن/ الطبطبائي (ت 1401 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } * { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } * { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } * { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } * { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } * { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ ٱللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } * { تِلْكَ آيَاتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } * { وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } * { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْفَاسِقُونَ }

بيان الآيات من تتمة ما خاطب به المؤمنين بالتحذير من أهل الكتاب وتفتينهم وأن عندهم ما يمكنهم أن يعتصموا به فلا يضلوا ولا يسقطوا في حفر المهالك وهي مع ذلك كلام اعتقبه كلام ولا تغير السياق السابق أعني أن التعرض لحال أهل الكتاب لم يختتم بعد والدليل على ذلك قوله تعالى بعد هذه الآيات { لن يضروكم إلاَّ أذى } " الخ ". قوله تعالى { يا أيُّها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } ، قد مرّ فيما مرّ أن التقوى وهو نوع من الاحتراز إذا كان تقوى الله سبحانه كان تجنباً وتحرزاً من عذابه كما قال تعالىفاتّقوا النار التي وقودها الناس والحجارة } البقرة 24، وذلك إنما يتحقق بالجري على ما يريده ويرتضيه فهو امتثال أوامره تعالى والانتهاء عن نواهيه والشكر لنعمه والصبر عند بلائه ويرجع الأخيران جميعاً إلى الشكر بمعنى وضع الشيء موضعه وبالجملة تقوى الله سبحانه أن يطاع ولا يعصى ويخضع له فيما أعطى أو منع. لكنه إذا أخذ التقوى حق التقوى الذي لا يشوبه باطل فاسد من سنخه كان محض العبودية التي لا تشوبها إنية وغفلة وهي الطاعة من غير معصية والشكر من غير كفر والذكر من غير نسيان وهو الإِسلام الحق أعني الدرجة العليا من درجاته وعلى هذا يرجع معنى قوله { ولا تموتن إلاَّ وأنتم مسلمون } إلى نحو قولنا ودوموا على هذه الحال حق التقوى حتى تموتوا. وهذا المعنى غير ما يستفاد من قوله تعالىفاتّقوا الله ما استطعتم } التغابن 16، فإن هذه الآية في معنى أن لا تذروا التقوى في شيء مما تستطيعونه غير أن الاستطاعة تختلف باختلاف قوى الأشخاص وأفهامهم وهممهم ولا ريب أن حق التقوى بالمعنى الذي ذكرناه ليس في وسع كثير من الناس فإن في هذا المسير الباطني مواقف ومعاهد ومخاطر لا يعقلها إلاَّ العالمون ودقائق ولطائف لا يتنبه لها إلاَّ المخلصون فرب مرحلة من مراحل التقوى لا يصدق الفهم العامي بكونها مما تستطيعه النفس الإِنسانية فيجزم بكونها غير مستطاعة وإن كان أهل التقوى الحقة خلفوها وراء ظهورهم وأقبلوا بهممهم على ما هو أشق وأصعب. فقوله { فاتقوا الله ما استطعتم } ، الآية كلام يتلقاه الأفهام المختلفة بمعان مختلفة على حسب ما يطبقه كل فهم على ما يستطيعه صاحبه ثم يكون ذلك وسيلة ليفهم من هذه الآية أعني قوله { اتّقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلاَّ وأنتم مسلمون } أن المراد أن يقعوا في صراط حق التقوى ويقصدوا نيل هذا المقام والشخوص والمثول فيه وذلك نظير الاهتداء إلى الصراط المستقيم الذي لا يتمكن منه إلاَّ الأوحديون ومع ذلك يدعى إليه جميع الناس فيكون محصل الآيتين { اتقوا الله حق تقاته } { فاتّقوا الله ما استطعتم } أن يندب جميع الناس ويدعوا إلى حق التقوى ثم يؤمروا بالسير إلى هذا المقصد ما قدروا واستطاعوا وينتج ذلك أن يقع الجميع في صراط التقوى إلاَّ أنهم في مراحل مختلفة وعلى درجات مختلفة على طبق ما عندهم من الأفهام والهمم وعلى ما يفاض عليهم من توفيق الله وتأييده وتسديده فهذا ما يعطيه التدبر في معنى الآيتين.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد