بيان في السورة دعوة إلى الإِيمان بالله واليوم الآخر وتمييز المؤمنين من الكفار بذكر ما لهؤلاء من جميل صفات العبودية وما لأولئك من رذائل الأخلاق وسفاسف الأعمال، وتعقيب ذلك بالتبشير والإِنذار، وقد تضمّن الإِنذار ذكر عذاب الآخرة وما غشي. الأمم المكذبين للدعوة الحقة من عذاب الاستئصال في مسير الدعوة آخذاً من زمن نوح إلى زمن المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام. والسورة مكية، وسياق آياتها يشهد بذلك. قوله تعالى { قد أفلح المؤمنون } قال الراغب الفلح - بالفتح فالسكون - الشقّ، وقيل الحديد بالحديد يفلح أي يشقّ، والفلاح الظفر وإدراك بغية وذلك ضربان دنيوي وأُخروي، فالدنيوي الظفر بالسعادات التي تطيب بها الحياة الدنيا وهو البقاء والغنى والعز، والأخروي أربعة أشياء بقاء بلا فناء، وغني بلا فقر، وعزّ بلا ذلّ، وعلم بلا جهل، ولذلك قيل لا عيش إلا عيش الآخرة. انتهى ملخصاً. فتسمية الظفر بالسعادة فلاحاً بعناية أن فيه شقاً للمانع وكشفاً عن وجه المطلوب. والإِيمان هو الإِذعان والتصديق بشيء بالالتزام بلوازمه، فالإِيمان بالله في عرف القرآن التصديق بوحدانيته ورسله واليوم الآخر وبما جاءت به رسله مع الاتبّاع في الجملة، ولذا نجد القرآن كلما ذكر المؤمنين بوصف جميل أو أجر جزيل شفّع الإِيمان بالعمل الصالح كقوله{ مَن عمل صالحاً من ذكر أو أُنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيبة } النحل 97، وقوله{ الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب } الرعد 29، إلى غير ذلك من الآيات وهي كثيرة جداً. وليس مجرد الاعتقاد بشيء إيماناً به حتى مع عدم الالتزام بلوازمه وآثاره فإن الإِيمان علم بالشيء مع السكون والاطمئنان إليه ولا ينفكّ السكون إلى الشيء من الالتزام بلوازمه لكن العلم ربما ينفكّ من السكون والالتزام ككثير من المعتادين بالأعمال الشنيعة أو المضرَّة فإنهم يعترفون بشناعة عملهم أو ضرره لكنهم لا يتركونها معتذرين بالاعتياد وقد قال تعالى{ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } النمل 14. والإِيمان وإن جاز أن يجتمع مع العصيان عن بعض لوازمه في الجملة لصارف من الصوارف النفسانية يصرف عنه لكنه لا يتخلف عن لوازمه بالجملة. قوله تعالى { الذين هم في صلاتهم خاشعون } الخشوع تأثر خاص من المقهور قبال القاهر بحيث ينقطع عن غيره بالتوجه إليه والظاهر أنه من صفات القلب ثم ينسب إلى الجوارح أو غيرها بنوع من العناية كقوله صلى الله عليه وآله وسلم - على ما روي - فيمن يعبث بلحيته في الصلاة أما إنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه، وقوله تعالى{ وخشعت الأصوات للرحمن } طه 108. والخشوع بهذا المعنى جامع لجميع المعاني التي فسّر بها الخشوع في الآية، كقول بعضهم هو الخوف وسكون الجوارح، وقول آخرين غضّ البصر خفض الجناح، أو تنكيس الرأس، أو عدم الالتفات يميناً وشمالاً، أو إعظام المقام وجمع الاهتمام، أو التذلّل إلى غير ذلك.