الرئيسية - التفاسير


* تفسير الميزان في تفسير القرآن/ الطبطبائي (ت 1401 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } * { وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلَٰئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ إِن كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ } * { قَالُواْ سُبْحَٰنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } * { قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }

بيان الآيات تنبىء عن غرض إنزال الإِنسان إلى الدنيا وحقيقة جعل الخلاقة في الأرض وما هو آثارها وخواصها، وهي على خلاف سائر قصصه لم يقع في القرآن إلاَّ في محل واحد وهو هذا المحل. قوله تعالى { وإذ قال ربك } الخ، سيأتي الكلام في معنى القول منه تعالى وكذا القول من الملائكة والشيطان إن شاء الله. قوله تعالى { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } ، إلى قوله { ونقدس لك }. مشعر بأنهم إنما فهموا وقوع الإِفساد وسفك الدماء من قوله سبحانه إني جاعل في الأرض خليفة، حيث أن الموجود الأرضي بما أنه مادي مركب من القوى الغضبية والشهوية، والدار دار التزاحم، محدودة الجهات، وافرة المزاحمات، مركباتها في معرض الانحلال، وانتظاماتها وإصلاحاتها في مظنة الفساد ومصب البطلان، لا تتم الحياة فيها إلاَّ بالحياة النوعية، ولا يكمل البقاء فيها إلاَّ بالاجتماع والتعاون، فلا تخلو من الفساد وسفك الدماء، ففهموا من هناك أن الخلافة المرادة لا تقع في الأرض إلاَّ بكثرة من الأفراد ونظام اجتماعي بينهم يفضي بالآخرة إلى الفساد والسفك، والخلافة وهي قيام شيء مقام آخر لا تتم إلاَّ بكون الخليفة حاكياً للمستخلف في جميع شؤونه الوجودية وآثاره وأحكامه وتدابيره بما هو مستخلف، والله سبحانه في وجوده مسمى بالأسماء الحسنى متصف بالصفات العليا، من أوصاف الجمال والجلال، منزه في نفسه عن النقص ومقدس في فعله عن الشر والفساد جلّت عظمته، والخليفة الأرضي بما هو كذلك لا يليق بالاستخلاف ولا يحكي بوجوده المشوب بكل نقص وشين الوجود الإِلهي المقدس المنزه عن جميع النقائص وكل الأعدام، فأين التراب ورب الأرباب، وهذا الكلام من الملائكة في مقام تعرف ما جهلوه واستيضاح ما أشكل عليهم من أمر هذا الخليفة، وليس من الاعتراض والخصومة في شيء، والدليل على ذلك قولهم فيما حكاه الله تعالى عنهم { إنك أنت العليم الحكيم } ، حيث صدر الجملة بإن التعليلية المشعرة بتسلم مدخولها فافهم فملخص قولهم يعود إلى أن جعل الخلافة إنما هو لأجل أن يحكي الخليفة مستخلفه بتسبيحه بحمده وتقديسه له بوجوده، والأرضية لا تدعه يفعل ذلك بل تجره إلى الفساد والشر، والغاية من هذا الجعل وهي التسبيح والتقديس بالمعنى الذي مرّ من الحكاية حاصلة بتسبيحنا بحمدك وتقديسنا لك، فنحن خلفائك أو فاجعلنا خلفاء لك، فما فائدة جعل هذه الخلافة الأرضية لك؟ فرد الله سبحانه ذلك عليهم بقوله { إني أعلم ما لا تعلمون * وعلم آدم الأسماء كلها }. وهذا السياق يشعر أولاً بأن الخلافة المذكورة إنما كانت خلافة الله تعالى، لا خلافة نوع من الموجود الأرضي كانوا في الأرض قبل الإِنسان وانقرضوا ثم أراد الله تعالى أن يخلفهم بالإِنسان كما احتمله بعض المفسرين، وذلك لأن الجواب الذي أجاب سبحانه به عنهم وهو تعليم آدم الأسماء لا يناسب ذلك، وعلى هذا فالخلافة غير مقصورة على شخص آدم عليه السلام بل بنوه يشاركونه فيها من غير اختصاص، ويكون معنى تعليم الأسماء إيداع هذا العلم في الإِنسان بحيث يظهر منه آثاره تدريجاً دائماً ولو اهتدى إلى السبيل أمكنه أن يخرجه من القوة إلى الفعل، ويؤيد عموم الخلافة قوله تعالى

السابقالتالي
2 3 4 5 6